أسباب توتر العلاقات الأميركية التركية…

إبراهيم ياسين

دخلت العلاقات الأميركية التركية مرحلة جديدة من التوتر الغير مسبوق على خلفية الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضدّ الكثير من الدول في العالم تحت عنوان حماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الخارجية. وفي هذا السياق يأتي رفع الرسوم الجمركية على استيراد بعض السلع من تركيا، لا سيما الألومنيوم والحديد الصلب. على أثر هذه العقوبات تأثرت العملة التركية وشهدت تراجعاً كبيراً ناهز أكثر من أربعين بالمئة من قيمتها، وهو مستوى قياسي غير مسبوق، وقد ردّت تركيا بالمثل، عبر فرض رسوم جمركية على بعض السلع الأميركية المستوردة. وسارع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني إلى التعهّد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتوجيه حزمة عاجلة من الاستثمارات والودائع تقرب قيمتها 15 مليار دولار أميركي، وذلك في محاولة لإسناد حليفه الإقليمي الذي يتعرّض اقتصاد بلاده لأزمة كبيرة ومفتعلة…

من الواضح أنّ هذه الحرب التجارية التي بدأتها واشنطن تحت ذريعة عدم إقدام أنقرة على إطلاق سراح القس الأميركي المعتقل لديها بتهمة التآمر مع الإنقلابيين، والتجسّس لصالح الولايات المتحدة الأميركية، تضاف إلى العديد من الأزمات التي أحدثت شرخاً في العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين. هذه الأزمة التي سبقها توجه تركيا إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع كلّ من روسيا وإيران، والاتفاقيات التي وقعتها تركيا مع إيران وروسيا في أستانة بشأن معالجة الأزمة في سورية، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة الأميركية التي بدورها أيضاً أزعجت تركيا بسبب علاقاتها مع قوات «قسد» الكردية في شمال سورية. على أنّ الأزمة الحالية جاءت لتشكل ذروة الخلاف بين الدولتين، وتهدّد فعلياً علاقاتهما التحالفية التي تعود إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

والسؤال المطروح الذي يستوجب رداً عليه، هل سترضخ تركيا للضغوط الأميركية، وما هو مستقبل العلاقات بينهما؟!

من المعلوم بأنّ العلاقات بين تركيا والدول الغربية برئاسة الولايات المتحدة الأميركية قد بدأت بالتوتر عندما رفض الاتحاد الأوروبي أكثر من مرّة انضمام تركيا إلى الاتحاد، في وقت تعلم تركيا بأنها القوة الثانية بعد الجيش الأميركي في حلف الأطلسي من حيث الدعم والمؤازرة في المهمات التي قام ويقوم بها حلف الأطلسي في العالم منذ الحرب الكورية وصولاً إلى أفغانستان وغيرها…، إلى جانب أنّ تركيا بدأ ينتابها شعوراً متزايداً بأنّ الدول الغربية وعلى رأسها أميركا يتعاملون معها «بالدونية»، كدولة تابعة عليها تنفيذ السياسات الغربية، من دون مراعاة لمصالحها أو إعطائها أيّ ميزة من الميزات التي تحصل عليها الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي. وفي الآونة الأخيرة ازدادت تركيا قناعة بهذا التوجه الغربي وبهذه السياسة الغربية المدمّرة للمصالح الوطنية التركية التي أصبحت مهدّدة من قبل الغرب والأميركي تحديداً، والذي تمثل بالموقف الداعم للقوات الكردية في سورية والتي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وخطراً على وحدة واستقرار تركيا. لذلك كان التوجه التركي نحو توطيد العلاقات مع روسيا وإيران وعدم الالتزام بالعقوبات الأميركية المفروضة على الدولتين، وطالما أنّ الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية لا يراعون المصالح التركية، ولا يتعاملون معها كدولة مستقلة لها كامل الحقوق كما تقتضي العلاقات بين الحلفاء، فإنه من الصعب إيجاد حلول دائمة تضع حدّاً لهذا الخلاف المتواصل، خاصة بعد أن لمس الرئيس التركي أردوغان دوراً للدول الغربية في محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة التي نظمت ضدّه قبل نحو عام.

أما لناحية مستقبل العلاقات بين تركيا من جهة والدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، فإنه من المرجح أن يكون محكوماً بمصالح تركيا التي تقتضي بأن تحافظ على علاقاتها الاستراتيجية مع هذه الدول، وفي نفس الوقت عدم تخلّيها عن علاقاتها المتطورة مع روسيا وإيران، لا سيّما أنّ هناك العديد من الشركات التركية التابعة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أصبحت لديها مصالح اقتصادية كبيرة تربطها مع هذين البلدين ترسّخت على مدى العقدين الأخيرين، وقس على ذلك أيضاً بقية الشركات الأخرى الخاصة المملوكة من قبل رجال أعمال أتراك والتي بنت لها علاقات اقتصادية وتجارية مع شركات روسية وإيرانية… والحرب التجارية التي يشنّها ترامب الْيَوْمَ ضدّ تركيا تدفع بأنقرة إلى التمسك بهذه العلاقات وتعزيزها أكثر من أية مرحلة سابقة في ما مضى، لا سيّما أنّ كلاً من موسكو وطهران قد أبدتا الحرص على تعزيز هذه العلاقات والوقوف إلى جانب تركيا في مواجهة الحرب التجارية عليها كما وقفتا إلى جانب أردوغان ضدّ الانقلاب الفاشل الذي استهدفه، وهذا ما حذّر منه أحد المسؤولين الأميركيين الذي نبّه إلى خطورة خسارة التحالف الاستراتيجي مع تركيا، فيما أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحات تصعيدية بأنّ تركيا لن تستسلم لضغوطات الحرب التجارية الأميركية، متسائلاً: كيف يمكن لحليف استراتيجيٍ لتركيا أن يتصرف معها كأنها عدو كما يحصل حالياً معها.

من الطبيعي أن ينعكس هذا التوتر المتصاعد بين أنقرة وواشنطن إلى اقتراب تركيا أكثر من روسيا وإيران، وبالتالي عدم التزامها بحزمة العقوبات الجديدة التي قرّر ترامب فرضها على الدولتين.

كما أنه من المحتمل أن يبدي تعاوناً أكبر مع روسيا وإيران في إيجاد حلّ سريع لما تبقى من الإرهابيين الذين تجمّعوا في محافظة إدلب، خاصة في ضوء المعلومات التي تحدثت عن اتجاه تركيا لتنفيذ اتفاق الفصل بين ما يسمّى الجماعات المعتدلة والجماعات المصنّفة إرهابية، وطلب تركيا من جبهة النصرة حلّ نفسها والانضمام الى الجماعات المصنّفة معتدلة. وقد سجلت ميدانياً حركة نزوح كثيفة لسكان عدد من قرى ريف حلب الجنوبي في أعقاب إعلان غرفة «عمليات ريف حلب الجنوبي» التابعة للجماعات المسلحة الإرهابية عدداً من القرى مناطق عسكرية يجب إخلاؤها من السكان، والتي تتاخم نقطة المراقبة التركية في تل طوقان.

يبدو أن الجانب الروسي والإيراني أقرب إلى الفوز بهذه المعركة والتي تتسبّب في قلق متزايد للأميركي الذي سيماطل أكثر كي لا تكون خسائره كبيرة ومهمة تصبّ في مصلحة روسيا، ولذلك سيضع حليفه التركي تحت ضغوط عنيفة تلزمه بالعودة طوعياً إلى حضنه الدافئ، على الرغم من برودته الحالية…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى