المسودة الأولى لكتابة التاريخ

بالتأكيد لن يصدق، أصحاب مقولة الشعوب غير ناضجة وأنصارهم أنّ الأفكار التنويرية التي ظهرت في أوروبا، لم تحل دون خوض الشعوب صراعات دموية، وأنّ التجربة الإنسانية ومؤسسات المجتمع المدني، هي مَن أسهمت في إنهاء هذه الصراعات دون غيرها. ومن ثمّ خلق أجيال ديمقراطية باتت الحرية ممارسة وسلوكاً طبيعياً لأفرادها. وعلى سيرة الحريّة وكون مقال اليوم خصصته لصاحبة الجلالة بعد الاحتفال بعيدها السنوي الذي صادف الخامس عشر من شهر آب. فالصحافة يجب أن تكون منبر الحرّ والأحرار ممن يعملون في مهنة المتاعب كما أسماها معظم الناس.

كذلك يجب عدم إنكار الدور الرائد للسوريين في هذا المجال، فأعرق الصحف العربية اليوم قد أنشأها سوريون مثل صحيفة الأهرام المصرية التي يعود الفضل في تأسيسها لسوريين هاجروا إلى مصر في بداية القرن الماضي. وهذا سيكون محفزاً للتحدّث عن كبت الحريات الذي يمارس على صحافيي سورية اليوم.

فنحن في عالمنا العربي البائس مازلنا حتّى الساعة نتجادل في ما أصبح من البديهيات والمسلمات في دول الغرب، فنتناقش عن حرية إعلامنا ولكأنها اختراع جديد، نلتمس أبعاده ونحاول فك طلاسمه، ندوّرها كيفما أردنا ونجزم أنها لا تمثل أمّ الفضائل لكنها تكشف نقاط الضعف قبل أن تتحوّل وهناً. وتفضح الفساد قبل أن يتفشّى وينتشر بشكل سرطاني، وأنّ غيابها أو تغييبها، يعني وبشكل غير مباشر، خلق بيئة متوارية لتفشي رذيلتي الفساد والاستبداد، الكفيلتين بخراب الإنسان والعمران أينما حلّتا.

ورغم يقيني كما هو يقين الأكثرية أنها حرية ذات سقف منخفض، وتخضع للعديد من القيود التي إن لم تكن قانونية، فهي اجتماعية، والأدق تعبيراً، شخصية، من قبل القائمين على الصحف أنفسهم خوفاً على كراسيهم الدوّارة والتي لا تدري متى تدور ويأتي دورك أنت الناقد اللاذع لا بدّ وقتها سيتوقف قلمك عن النقد البناء ويتحوّل إسفنجة تمتصّ الهفوات البسيطة وتنبذ الهفوات الكبيرة والمقصودة هي وأصحابها. إنّ هذا السقف المنخفض، تريد السلطات وأنصارها أن يلتصق بالأرض. وما يزيد الطين بلّة أن دساتير وقوانين معظم البلاد أقرب إلى قطع الديكور، لا قيمة حقيقية لها. فهي عادة تكتظ بالمواد الكافلة لحرية الصحافة – السلطة الرابعة – ومنع العقوبات السالبة للحرية. لكنها فعلياً تطبق بطريقة هوائية حسب القائمين على التطبيق مع حفظ ألقابهم التعبيرية.

في الفيلم العالمي The Post الذي يتناول معركة الصحافة ضدّ السلطة، فيعرض الصحافيون من خلال الواشنطن بوست، ونيويورك تايمز الذين نشروا – أوراق البنتاغون التي تتعلّق بتورط حكومة الولايات المتحدة في حرب الفيتنام.. يقول بطل الفيلم النجم – توم هانكس – على لسان رئيس تحرير واشنطن بوست بن برادلي: النشر هو الطريقة الوحيدة لحماية حق النشر أمّا الأكثر حكمةً ما قالته النجمة – ميرل ستريب – دور الصحافة هو خدمة المواطنين وليس الحكومة ، و الصحافة هي المسودة الأولى لكتابة التاريخ .

أين هي حرية الصحافة في أيامنا هذه رغم استبسلال الكثير من الصحافيين وتعريض حياتهم للموت في المناطق التي تشظّت من ويل المسلحين لينقلوا لنا الخبر بمصداقية وواقعية. ما يمارس على الصحافة اليوم هو سياسة تضييق الخناق. وهذا ما هو إلّا دليل جازم أنهم مقتنعون أنّ حرية الإعلام خطر على وجودهم، وخطر على استقرار مقاعدهم السلطوية الوثيرة، بامتيازاتها الوفيرة، مما انعكس سلباً على الصحافيين والصحف من خلال الحجب والسجن والغلق إذا اقتضت الضرورة.

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى