«الحبّ والخبز»… مشروع روائي للكاتبة آسيا عبد الهادي ينحاز تماماً للخير!

محمد المشايخ

آسيا عبد الهادي، صاحبة مشروع روائي عربي، ملتزم بهموم أمتها القومية وتطلّعاتها التحررية، وضمن هذا التوجه، أصدرت ثماني روايات، تقدّمتها روايتها «الحب والخبز» الصادرة عام2006 .

تتخذ هذه الرواية من القضية الفلسطينية، ومن حرب 1948 وما قبلها وما بعدها حتى حرب 1967 مسرحاً لأحداثها، تتوقف عند الانتهاكات «الإسرائيلية» لحقوق الإنسان الفلسطيني التي طالته في أرضه وعرضه ومقدّساته وممتلكاته والتي انتهت باحتلال وطنه، مستعينة بذاكرتها الحديدية، لـِتـُذَكـّر بأدق تفاصيل العذاب والقهر الذي ذاقه من استشهدوا ومَن أسروا ومَن جُرحوا ومَن اعتقلوا ومَن تعرضوا للمذابح، ومَن تشتتوا في المنافي، ومَن سحقتهم الغربة، ومَن تعرّضوا للجوع والفقر وتقلبات الطقس في كل الفصول وهم في خيام أو مـُغـُر تشبه الجحور، أو في منازل لا يمتلكون أجرتها، لتؤكد الروائية هنا مصداقية المثل القائل من طلع من داره قلّ مقداره وبقدر ما كان لدى هؤلاء من كرامة، ومن إصرار على التحرير والعودة للوطن، بقدر ما طالتهم يد الغدر والخيانة، فما عجز عنه الاحتلال، نفّذه ذوو القربى الذين مثلتهم شخصية العميل أبو عرنك.

يُسجّل للروائية هنا، أنها لم تتخذ موقفاً محايداً، وهي تنتصر للخير في مواجهة الشر، فكانت طويلة النفس وهي تستعرض مداهمات وكرابيج واعتداءات الجواسيس، ومن سقطوا في إدمان الخمر الذي ذهب بعقولهم، والبخلاء الذين ساهموا في بث الحرمان ومارسوا التجويع، عدا عن الأمراض التي فتكت بكثير من الأشخاص، بشكل موازٍ لوقفاتها عند ممارسات العدو الوحشية، ولقسوة البيئة والطبيعة، وبشكل مواز أيضاً لاستعراض وقفات العز والكرامة التي نفذتها الشخصيات النامية والمتطورة في الرواية، التي كانت تتحدّى الموت، لتبث الخصب وتجدد الحياة، عبر رفضها للانتداب والاحتلال بالقول وبالفعل، عدا عن تضحياتها من أجل التحرير والعودة. وهنا تبرز اللوحات التشكيلية التي بثتها الروائية للأرض الفلسطينية المعطاءة، التي أنقذت بما أنبتته حياة كثيرين من الموت، وعدا عن العذاب الجسدي، فقد أسهبت الروائية في استعراض العذاب الروحي والنفسي الذي لحق بأبناء وبنات شعبها بشكل عام، وبشكل خاص وهم يناضلون من أجل التعلـّم سواء في المدارس الحكومية أو مدارس الإرساليات أو مدارس وكالة الغوث الدولية أو حتى في الكتاتيب والمنازل، التي كانت تخلو من الماء والكهرباء وغيرها من ضرورات الحياة.

وتمتاز رواية آسيا عن غيرها من الروايات التي نقدها د. أحمد عطيه أبو مطر في كتابه «الرواية في الأدب الفلسطيني 1950-1975»، الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية عام 1980 بوقفاتها الطويلة عند معاناة ونضالات المرأة الفلسطينية، بل إن إحداهن تعلمت واشتغلت بالتمريض في وقت مبكر، وفيما بعد سافرت للكويت، لترفع شبح الفقر عن أسرتها، وحتى المرأة المجنونة «ماريتا» تحوّلت في هذه الرواية من شخصية متوحشة ومرعبة إلى نبع متدفق من الحنان والكرم والجود الذي لم يتمتع به كثيرون من العقلاء، أما النساء عامة فقالت عنهن الرواية: «لم تكن النساء في ذلك الوقت تحظين بالكثير من الرعاية فهي الأم التي تعمل في تدبير شؤون بيتها.. إضافة إلى العمل في الحقول والمزارع. ولم يكن هناك اهتمام كبير بكون المرأة حاملاً.. فهي تحمل وتلد بشكل تلقائي مثل أي أنثى في العالم.. البقرة.. النعجة.. القطة.. لا فرق.. هي وحدها تعاني وتتألم وتقوم على خدمة عائلتها، وهذه مسؤوليتها، أما الحمل والولادة فسنة الله في خلقه، ووظيفة كل النساء».

كما أطالت آسيا عبد الهادي الوقوف عند الطفل الفلسطيني، مخترقة الحاجز الذي يفصل بين الإنسان والحيوان، لتبرز تعلـّق الأطفال الفلسطينيين من الجنسين بحيواناتهم الأليفة، وتعلّق تلك الحيوانات بهم، إذ لم يبق على الروائية إلا أن تجعل تلك الحيوانات تنطق، لتعبّر عن تعلـّقها بالوطن وبأحبتها من الأطفال. كما تمتاز رواية آسيا بجلدها للذات العربية المتخاذلة، التي لم تنجد أشقاءها، ولم تمدّ يدها لمساعدتهم، بل إنها كثيراً ما تطاولت عليهم، فاتهمتهم بمغادرة الوطن دونما مقاومة، وقبل أن تصلهم نار العدو، واستهزأت باللاجئ، ونعتته بأقذر الأوصاف، مستمدّة العزيمة من العدو الذي كان يسعى لبث الفرقة بين سكان المدن والقرى والمخيمات ضمن سياسته المشهورة بـ»فرّق تسد»، حتى اللهجة تدخلت بها الرواية فقالت شاهدت نساء مختلفات في لهجتهنّ فالقلم الذي نلفظه نحن «كلم» يلفظنه «ألم».. وبدل أن تسأل كيف حال أمكم تقول: «كيف حال أمكون». وهكذا يمضي القارئ مع رواية آسيا في لوحاتها المختلفة، التي سيّست فن الرواية، ونقلته من استعراض العذاب الجسدي والنفسي، إلى الصمود والألم، إلى قمة المأساة، ومن ثم الانتقال من النكبة إلى الثورة، لتتوقف عند حرب 1967، بهدف إبقاء نهاية الرواية مفتوحة، فالروائية التي استشرفت المستقبل الأجمل والأفضل للأمة، كانت تعرف أن الحائط الذي كان يستند عليه أهل فلسطين التاريخية عام 1948 قد هال في حرب عام 1967، ولأنها روائية تنويرية، تجيد الإبداع وفق الزمن الدائري، فهي تسترجع الماضي وتسقطه على الحاضر، وفي الوقت نفسه تستبق المستقبل، مبشرة بأن القوى الشعبية الوطنية ببعديها الفردي والجماعي ستخوض الكثير من الانتفاضات.

صنفان من السيرة التأم شملهما في هذه الرواية، وهما السيرة الذاتية للروائية آسيا عبد الهادي، والسيرة الغيرية للشعب الذي تنتمي إليه، ورغم امتلاكها للخيال المحلـّق والمـُجنـّح إلا أنها ظلت متمسكة بالواقعية النقدية، المشفوعة بتجاربها وما عايشته من أحداث، وبالصدق الموضوعي والفني، المبني على التجارب التي عايشتها، والأحداث التي تأثرت بها، وفتحت المجال لقرائها ولمجايليها ولمن اكتووا بنار الانتداب والاحتلال التي اكتوت بها أن يتأثروا تأثراً لا يرمي للفضفضة والتنفيس، بقدر ما يتضمن التحريض على المقاومة والمواجهة.

استندت هذه الرواية على التاريخ، ولكنها لم تتوقف عند بعده التسجيلي التوثيقي الرسمي، بل قدّمت من خلال تجربتها الروائية الشفوية الأصدق والأدق والأكثر موضوعية، مستعينة بتيار الوعي والمونولوج الداخلي الذي بثّت من خلاله عذابات وأوجاع وتطلعات بنات وأبناء شعبها، عبر جمعها بين التصوير والوصف الذي كان يرتقي بالسرد ويدفعه خطوات سريعة ومتقدمة إلى الأمام، أو تجعله يتوقف أو يتغيّر حيث تشاء، لا سيما أن شخصياتها حافظت على إنسانيتها في كل أوضاعها، فلم تفن كما يشتهي العدو، ولم تتصف بالسوبرمان كما يريد القارئ، وتتبدّى روعة السرد والوصف عبر قول بطلة الرواية: «تتألق طفولتنا بالجري والركض والصياح بين أشجار كبيرة وصغيرة مختلفة الأصناف وأشكال الزنابق الحمراء والبيضاء وشقائق النعمان بألوانها الرائعة وقرن الغزال النرجس البري برائحته ولونيه الأبيض والأصفر إضافة إلى الأزهار والورود هناك أنواع كثيرة من الخضار والتوابل كالزعتر والمريمية والقرنية والشومر والنعنع البري وهناك ما يطبخ منها الحميض والبقلة والهندباء والخبيزة والثوم البري وهناك السعيسعة التي تنمو بين سنابل القمح.. أما عن الطيور فحدّث ولا حرج عن البلابل من كل صنف القبرة والبط البري والحبارى، والدجاج البري والأرانب.. أما عن المياه، فالينابيع والسواقي كثيرة لا حصر لها نجدها في بطون الصخر يسير ماؤها رقراقاً مثلجاً، ذا طعم ومذاق خاص الشجر كثيف وكثير وكروم الزيتون والتين والعنب تغطّي مساحات كبيرةً من أرض الوطن الحبيب».

إن أوجاع بطلة الرواية وتعرّضها للانكسار النفسي، والذل والهزيمة والفقر والمرض والغربة، بعد فقدان الوطن، وأسر الزوج، وجنود الاحتلال والعملاء والسكارى والمجانين والبخلاء والانتهازيين من أبناء الطبقة الارستقراطية وحتى الحيوانات تسومهم العذاب، لم تدم طويلاً، فقد تعلّمت تلك البطلة عبر مسيرتها مع زوجها المجاهد المقاوم أن الفرح والسعادة في استمرار الثورة لتحرير الوطن، وأن الذلّ والعار في توقفها، جاء في الرواية للمقارنة بين الحياة في الوطن والحياة في المنفى. «أية حياة هذه التي نعيشها.. لماذا أخذت تتفشى هذه الأمراض.. هذا سكير.. وذاك يلعب القمار وآخر يموت تحت الحجارة شو هالحياة في هذا الحوش بعد البيارات والحقول والسهول والآبار والمياه والبحر والبيوت الفسيحة تضمّنا هذه الأحواش وتخنقنا بأسوارها كالمساجين؟ وين بلادنا؟».

إن تركيز الروائية على الوحدة العربية عامة، والوحدة الوطنية الفلسطينية خاصة، والتسامح والتعاضد بين المسلمين والمسيحيين، وانتصارهم للمقاومة، وإصرارهم على الصمود والتصدّي لكل الإجراءات المعادية الرامية لبث الفرقة والفتنة بينهم، لم يحل بينها وبين مشاركة زملائها من الروائيين العرب في التحدث عن الشخصية اليهودية في الرواية العربية، فحين يحضر الأسير اليهودي ذو الأصول الفرنسية مأسوراً من قبل رجال المقاومة لمنزل بطلة الرواية، نجدها تتعاطف معه ومع أمه التي انحرمت من رؤيته، كما أن إحدى شخصيات الرواية، صاحبت مجموعة من طالبات معهد الخياطة السامريات اللواتي يسكنّ طرف المدينة ويقال إنهم أصل اليهود الذين كانوا يعيشون في هدوء ولا يسيئون لأحد ولا يسيء أحد إليهم الكل يعيش بحرية وسلام.

وبقدر تميّز واستقلالية رواية آسيا هذه، وعدم اتكائها على غيرها من الروايات، إلا أنها كانت تتقاطع مع غيرها من الروايات العربية المعنية بالقضية الفلسطينية، ولا سيما رواية غسان كنفاني»عائد إلى حيفا»، ذلك أن إحدى شخصيات روايتها عادت إلى بلدتها المحتلة عام 1948 وجرى لها ما جرى لبطل رواية غسان.

في رواية آسيا تتداخل الأجناس الأدبية، وتتناسل الأساطير والمعتقدات والقصص والحكايات والوقائع والأحداث والحوارات، وتستحيل في بعض صفحاتها إلى موسوعة فلكلورية تتحدث عن وقائع الأفراح والأتراح وبعض تفاصيل الحياة اليومية الفلسطينية، وانعكاس التراث عليها جميعاً، مقدمة نماذج من التفاصيل التي إن وردت في الكتب النثرية فإنها ستوضع في الهوامش، أما في الرواية فقد بثتها آسيا عبر السرد، مستخدمة بعض الألفاظ ذات الإيقاع المتميز ولا سيما تلك التي يتخللها حرف الغين مغيط، ومغيطنة مثلا، وأيضا بعض الجمل التي تتميز ببلاغتها وصورها لا سيما حين تستخدم التجسيد والتشخيص الذي يعتبر من أرقى ما في البلاغة العربية، لأنه يبث الروح في الجمادات والأمور المعنوية «نهر من التساؤلات، الحزن شطر قلبي، نساء مثل الورد ورجال مثل الجبال، ولدين وأربع بنات بعين الشيطان» مثلا، وأيضا استخدامها بعض الأمثال: «بيت الضيق يتسع لألف صديق» وإيرادها بعض الأغاني الوطنية وتحريفها أحيانا لتنسجم مع الرؤى التنويرية والوطنية والوحدوية للروائية آسيا عبد الهادي ومنها قصيدة «الفدائي» للشاعر عبد الرحيم محمود، ومنها «نشيد بلاد العرب أوطاني»، وفي كثير من الأحيان كانت الروائية تنسى نفسها وتتدخل في الأحداث وتورد نثراً جميلاً تحدد فيه موقفها مما ورد في الرواية.

أما عنوان الرواية، باعتباره العتبة الأولى لها، فقد ورد تفسيره في قول إحدى شخصيات الرواية «أب يجاهد من أجل قوت أسرته ممزق ما بين الوطن المفقود والأسرة الحائرة.. الضائع بين الحب الكبير والخبز الشحيح».

عندما أصدرت آسيا هذه الرواية، لكن يكن د. وليد سيف قد كتب مسلسل «التغريبة الفلسطينية»، ولم يكن بسام الملا قد كتب مسلسل «باب الحارة الشامية»، ولم يكن د. عبد اللطيف عقل قد كتب مسرحيته «البلاد طلبت أهلها»، ولم تكن فرقة الحنونة الشعبية قد رسمت لوحاتها الشعبية للإنسان الفلسطيني من المهد إلى اللحد، ومن هنا كان لآسيا فضل السبق في هذا النوع من الإبداع.

ناقد أردني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى