إنها حركة تحرّر عربية جديدة…

د. رائد المصري

بهدوء… فربما لم يتعوّد العرب كيف يكون كسر الصمت بعدما عوّدتهم سلسلة الهزائم المتلاحقة والتسليم بما قدّر لهم الأميركي و»الإسرائيلي» في الفعل والقول والممارسة. ما بشر به سيد المقاومة في حلقة كسر الصمت يجب أن يكون عنواناً لمرحلة عربية وإعلاناً لإطلاق حركة تحرّر عربية في وجه الغطرسة ومشاريع الاستعمار الغربية، بعدما وضع أسسها وبنى المداميك الأولى فيها سيّد المقاومة ومعه كلّ الأحرار في سورية التي تكسّرت على صخرتها كلّ هذه المشاريع التآمرية والتدميرية، في تفنيدٍ واضح وشروح مفصلة لانهزام المشروع الأميركي وأفوله في المنطقة وتقويض القدرة «الإسرائيلية» حول القيام بحرب همجية على لبنان أو في سورية، بما يوحي بأنّ العرب باتوا من اليوم وصاعداً في أحضان دافئة بدأت تتحصّن بيئتهم الاستراتيجية ومعها وعيهم الجمعي في إدراك خطر مشاريع الهيمنة والسطو على ثروات الدول والشعوب، إضافة لثقافة المقاومة التي صارت الأنموذج والأمثولة عالمياً، حيث يخوض رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو وكلّ الأحرار معه وبيئته الشعبية الحاضنة المعركة التحريرية ذاتها بوجه المستعمرين الإمبرياليين وأدواتهم في بعض دول أميركا اللاتينية، تماماً كما خاضت دولنا وشعوبنا الحرة في لبنان وسورية والعراق وفلسطين معركة التحرير مع هذه الأدوات الوظيفية عربياً وغربياً ورأس حربتهم الكيان الصهيوني الغاصب…

إنها اللحظة التاريخية المناسبة ليتخلّص العرب من خيوط العنكبوت التي نسجتها لهم المشاريع الاستعمارية وربطتهم بها وجعلتهم مستنزفين وملحقين وتابعين، أيضاً بالقوة وبالسطوة الاستبدادية التي مارسها هؤلاء الحكام على شعوبهم بغية تطويعهم وجرّهم ليكونوا أدوات طيعة وبيئات حاضنة ملائمة لتمرير صفقات التصفية لقضية العرب الأولى فلسطين. فموجة المدّ التحرّري الجديدة التي أطلقها السيد نصرالله وتوّجها بانتصارات متتالية في لبنان وسورية مكرّساً معها معادلات الردع العسكرية مع الكيان الصهيوني، فصار السؤال مشروعاً حول مصير الكيان الصهيوني ودوره الوظيفي المعطل في المنطقة بعد الحديث عن إمكانية الدخول الى شمال فلسطين ومستوطنات الجليل لتحريرها، وهو أمر يدركه الصهاينة جيداً من دون بعض العرب الذين تآكلهم الصدأ وعفونة العمالة والتآمر جيلاً بعد جيل.

لن يلتقي قطار المقاومة المنطلق والمحقق كلّ هذه الإنجازات مع قطار المستعمرين الغربيين الأميركيين ولا بأيّ نقطة في هذا العالم، فدائرة الرفض لهذا القدر الأميركي وعنصريته تكبر وتتوسع، ومعها تتقوّض وتنحسر مشاريعه الاستعمارية، حيث فشل في سورية والمنطقة وفشل في تطويع روسيا والصين وأوروبا إلا باستثناءات قليلة، وفشل في استخدام تركيا كدرع عسكرية حامية لـ «إسرائيل» ومواجهة لروسيا، وفشل كذلك في تطويع إيران وتركيعها. وها هو اليوم يستدير الى حدائقه الخلفية ويريد تحقيق ما عجز عنه عبر العالم في فنزويلا ضارباً عرض الحائط بأسس شرعيات الدول ونظمها السياسية، منقلباً على شرعيات الأمم المتحدة وعلى كلّ الاتفاقيات المعقودة، متنصلاً من كلّ الالتزامات مع النظام الدولي. وهذا إنْ دلّ على شيء فهو يدلّ على فقدان السيطرة والتحكم والتوازن في إدارة النزاع ومداخل الصراع حول العالم، وهي حالة متطورة جداً جعلت المجموعات العربية تعدّل في حساباتها ويتحسّس البعض كرسيه في الحكم ويعتبر أنّ عودة العلاقة مع سورية تضفي عليهم شرعيات مفقودة في العهد الأميركي والعصر «الإسرائيلي»، وبأنّ الشرعيات الحقيقية تعطيها سورية بحضورها وهيبتها وحلفها المقاوم، وأنّ منع العبث بها هو الثابت في معادلات حركة التحرّر العربية، ولطالما أراد الأميركي اللعب عبر هزّ الاستقرار في شرعيات النظم الحاكمة حول العالم وهو ما يهدّد السلم والأمن الدوليين…

بمجرد أن يكون موقفك واضحاً نحو القضية الفلسطينية والحرب على سورية والعراق، فستكون عرضة للحصار وللعقوبات وللغزو الاستعماري الفاجر، وهكذا كانت فنزويلا بشعبها وقائدها، وأن ترضى بتأميم شركات النفط وتوزيع أرباحها على الشعب الفقير وتلبس كما يلبس الفقراء من أبناء وطنك وجلدتك، فستكون عرضة للتدخل وللاستباحة من الخارج. فهناك معركة واحدة يخوضها الأحرار في هذا العالم بنهج مقاوم لأميركا ومخططاتها في الهيمنة الاقتصادية على مقدّرات الشعوب وبدعم القضية الفلسطينية، وبالوقوف مع سورية وحركات المقاومة في العراق وغزة واليمن، فتلك المعركة الحقيقية التي تخط مرحلة جديدة لحركة تحرّر عالمية.

الفرصة اليوم تبدو سانحة، فالمشروع الأميركي انهزم في سورية والعراق وفي إيران والحصار النفطي على هذا البلد يتآكل، وقمة ترامب في وارسو انهارت قبل أن تبدأ وولدت ميتة، وصفقة القرن ماتت وشبعت موتاً، و»إسرائيل» تعيش قلقاً وجودياً بسبب صواريخ المقاومة وقوة ردع المقاومة، وأيّ تدخل أو حصار أو غزو على فنزويلا سيفشل حتماً وربما تكون له نتائج عكسية على إدارة ترامب، لأنّ هذه الغطرسة الأميركية والاستباحة الاستعمارية يجب مواجهتها ووضع حدّ لها، وقد حان الوقت لذلك حتى لا يدخل العالم في فوضى دموية تدميرية تصعب معها إعادة ترتيب العلاقات بين الدول كما في السابق…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى