«بيروت… الحمراء الوجنتين» تكرّم شوقي أبي شقرا على منصة منتدى «شهرياد» الثقافي

اعتدال صادق شومان

بعد أن أوفى منتدى شهرياد الثقافي بفرض واقع ثقافي مختلف وضمِن للساحة الثقافية إشعاعها وارتقاءها بمضمونه الراقي في رحاب الشعر خصوصاً، كما الفنون والإبداع عموماً. وهو على دأبه النشيط في تكريم المبدعين، وقد استهلها مع الشعراء والأدباء طارق ناصرالدين، غسان مطر، عباس بيضون ووجيه فانوس.

يستأنف المنتدى هذه الخاصية المميّزة بتتويج الأمسية 107 من برنامجه، باحتفالية تكريمية لمسيرة أكثر من ستين عاماً لعرّاب القصيدة النثرية شوقي أبي شقرا. بتضافر جهد بذله الشاعر نعيم تلحوق والكاتب سليمان بختي، ورعته وزارة الثقافة، ليتحلق حول المحتفى به بـ»صلاة الاشتياق» الأصدقاء القدامى مجايلوه من ثريا العمر، أو «مخضرمين». وجلّهم من روّاد الكلمة والقلم من عهد الثقافات الزاخرة في زمانها ومقامها، زمن بيروت ورصيدها الممتاز في عز أوجها الثقافي، غالبيتهم من أهل «الصحافة «، ذيّلت أسماؤهم عميقاً في ذاكرتنا الجميلة بما لهم وعليهم، بين صدح عالٍ بالحق والخير، أو «تورّط» ملتبس بين السياسة والثقافة والصحافة.

وقد اشتدت «حومة التكريم» روعة، بمنازلة منبرية إلى جانب أصحاب البلاغة والفصاحة، مع اطلالة ثلة من شعراء جيل الشباب

يعيدون طرح شغبهم، وألقهم، وقلقهم، وأحلامهم ويدلون بدلوهم صوغاً جميلاً مستعيدين مسار الرمز والدور للمحتفى به من «أبجدية الكلمة والصورة» إلى «فتى الهيكل» وخلف «خطوات الملك» أبي شقرا، وتجربته الإبداعية. وقد عاشها في الزمن الأوسع والأهم في تاريخ ثقافتنا وعلى تقاطع وتفاعل مع غالبية رواد الثقافة منذ ستينيات القرن الماضي، ومن شأنهم أن رسموا مسار المرحلة الشعريّة في ما بعد، وقالوا كلمتهم الفصل في معركة التّجديد والحداثة على صدارة «مجلة شعر» ومن الجلي أن تتراصف أسماؤهم في حفل تكريمه بدءاً من يوسف الخال، محمد الماغوط، أدونيس، سعيد عقل، خليل حاوي وانسي الحاج، إلى باقي الروّاد.

وقد اُستهلّت «أمسية الحب» كما أطلق عليها سليمان بختي التي أقيمت في فندق «غولدن توليب» على أنغام موسيقى للفنان جهاد وهبي، وبحضور زوجة المحتفى به «حلوة»، وجمّ من الأحبة والأصدقاء والشخصيات الإعلامية والثقافية، ووفد زغرتاوي يتقدّمه رئيس البلدية سيزار باسيم.

لتكون بداية الحفل مع كلمة مدير عام وزارة الثقافة الدكتور علي الصمد، الذي قدّم للشاعر ابي شقرا درع الإبداع باسم وزارة الثقافة.

ليتوالى على منبر الكلام، سمير عطالله، أدمون رزق، وعبدو لبكي.

وكانت هدية الحفل لوحة بورتريه تحية للشاعر أبو شقرا من أعمال الفنان التشكيلي علي شحرور، وباسم منتدى شهرياد صاحب المبادرة منح الشاعر الياس العطروني الشهادة التقديرية لأبي شقرا ومنحوتة شهرياد من الدكتور محمد ناصر الدين.

ثم توالت كلمات التحية المخضّبة بالحب على المحتفى به من: إلهام كلاب البساط، محمود شريح، لامع الحر، سلمان زين الدين، مردوك الشامي، شوقي دلال، سركيس أبو زيد، ميشال سعادة، زياد كاج، قاسم قاسم وفوزي يمين.

ومع كل هذا الفيض من التقدير الذي خصّه بها المكرّمون ضاق الوقت لكلمة كان قد أعدّها الشاعر المكرّم ليلقيها في نهاية الحفل قبل أن يعتذر بكلمة شكر مختصرة ألقاها بما عرف عنه بتواضع كبير.

والبناء التي افتخرت يوماً باستضافة قلم أبو شقرا على صفحتها الثقافية في مرحلة إعادة إصدارها في بيروت كجريدة يومية في العام 2009، خصّ هذه المرحلة في مذكراته بنشره ملحقاً كاملاً بمقالاته التي نشرت له في «البناء» ما بين 2010 و2011 حمل عنوان «نسطع ولو زارنا الليل» .

من جديد خصّنا الشاعر شوقي أبي شقرا بكلمته التي اعتذر عن إلقائها في الاحتفال التكريمي لضيق الوقت، لنشرها كاملة في «البناء» وهي بمثابة قطعة أدبية تضاف إلى مكمون رصيده الأدبي الجميل.

بيروت… الحمراء الوجنتين

شوقي أبي شقرا

إليكم حبي وشكري وكلاهما وردتان من تلك الحديقة، حديقة السالف والغابر من بحبوحة السنين ومن الصحبة. صحبة الحياة الغزالة. وهي التي تركض على الحصى وعلى التراب وعلى جلد التمساح وخرطومه القاحل. والتي تهرب لتنجو من الأنياب حيث الأقسى من القسوة، وحيث هي تغيب في غيبوبة الدنيا. وهكذا أنا الضرورة وكنت أهوى وأنشد حتى الهوى وما يحيط بالنعمة من الأشواك ومن القندول لأنني إبن الضيعة ولأنني التلميذ القادم من سائر الأحوال.

ولا جدل ولا فلسفة ولا فيلسوف وأدعوكم إلى الرضى إلى شجرة التوت تلك المحبرة وتلك النكهة على لسان اللص الظريف وعلى الطّبق من القش وعلى البساط هو وعلى الحصيرة وحيث اللون والرسوم والزينة.

وتفضلوا وقرفصوا ولكم على صنيعكم مكافأة الوليمة، وكيس من اللذائذ وجربندية من الثمار المختبئة، وأنتم في الرحلة بدأت إلى الراحة الكاملة الأسنان وحيث الغلبة أن يكون المرء وأن يكون الفلاح وأن أكون أنا والجسد أن يتمادى بليونة، وكمشة أحاسيس تكاد تكون فلسفية، وكذلك أن تنفلش لتكون وجودية وفي عافية هي أيضاً تشعّ وربما هي القنديل وما بنا حاجة إلى أكثر من الآفاويةّ ومن أسوارة السعادة وغبطة الساعات وهي مرّ وتمرّ ولا تنسى صرماية المدخل ولا قلشين الفتاة أو هي العصفورة نسيت ولا تنسى أنها حافية وأن الطريق من الأطرف ومن الظرافة التامة البلاغة.

ولا نقول ولا أحد يقول «هات» أو ما يطابق الأمر والعادة، بل نحن معاً والوردتان معاً خنصر يجاور خنصراً وهنا فلان في راحة ويعد العدد وأن أحد السادة يتعذّب أو يعربش إلى المقصورة أو يتذكّر أن الأغنية هنا، اغنية الأصابع، وكيف هناك واحد من الأولاد ينتظر أن تصل الحكاية إلى اللعب والى أن ينفجر شيء من اللعبة ومن سيرة الغنج ومن أن الضحكة تسير وتفقع كالتينة أو كالبالون..

وهي العصفورة نسألها عبر الرغيف المأخوذ إلى سدّة الركبة، أن لا تقع في سفر الغلطة، وأن الرغيف نفسه ينصاع ويسجد لها كاملاً وخصباً. وهناك دور اللقمة لترقص وبها الغنج والذوبان وكلها في القاموس الريفي، قاموس الشهادة أننا أغنياء وان بلادنا وأن طباعنا كلتيهما عميقتان في وادي القلب والحشاشة.

وفي وادي البطن ومصطبة الذوق مصطبة ستي وعمتي وخالتي وجدتي الأخرى المضافة إلى الجذوع. واقتربوا يا جميع الناس من فحيح الخزامى ومن صدري ولهاثي ومن النحن، أي نحن الجلوس وشتى الوقفات والانحناءات. وخذوا كبكوب الذكريات معكم وتلاعبوا بالكلام أو بالتبغ أو بالورقة الناعمة القوام. وبدلاً من الكوسا تمتلئ السيكارة وترتعش في المدى وتصدر السطور من الجريدة، من الدخان والأفكار. وهكذا لا خطاب ولا قصائد ولا مدائح بل إنه لبنان المعتق والذي يدوم ويدوم إلا هنيهات من ذاك الأنس وتلك المتعة.

هذا اللبنان هو واحتي، هو الوحي والإيحاءات، هو الذي نزل وينزل نزول الندى أو نزول شراريب الشتاء. وأنا لست المؤرخ ولست أستاذ المدرسة، بل أنا من تعلمون. ولست إلا المهلهل وإلا ذاك المقص، إلا ذاك الفيغارو المؤنس والأنيس أو ذاك الشحرور يشتغل ويحمل الفصاحة من ذلك الدكان.

أو الذي كاد أن يقطف القمر في ليلة الغناء والمشي والسهر على حافة الأشياء، حافة ذاك الفنان العالي المقام والسامي الاحترام، وهو الشاب والختيار معاً ولا ينضب ينبوعه ولو تدحرج من فضائه على الناعمة الإجاصة، ولو راح يتغندر هو والصمت والغصن الغافي ولا أحد سواه والناطور ليس هنا ليصرخ صراخ الأنشودة ولا يناقض سيرة الفيزياء. ونحن ندعوه أن يكمل الجملة وهي على رأس لسانه. أما طعمه ولونه فهما من العلوم في جامعة المجرّة.

وذات يوم سندعوه أن يحطّ وان يتعلم دربة الحمام وان يهبط بجزمته في مطارحنا وفي منازلنا، وان يتنازل عن عرشه هنيهات وان ينبطح على كل ثواب وعقاب وعلى كل إثم في ثياب حبّة حمص أو حبة عدس وعلى كل ما يغزل المغزل والطمأنينة ودولاب الصوف أو راحة الحلقوم.

وهكذا يكون أولاً، يكون الدخول إلى الاغنية التي هي ستي وعاطفتي وكانت الانتظار لأن تراني، لأن تقشع أين الظلام وإين الثعلب الذي ينادي الليل تعال أيها الأسود وبي جوع إلى المنقذ، إلى الدجاجة أو إلى الديك الذي ربما يتلوّى ولا يعقل. أو هو المشوار أخذه إلى سرير الغبطة إلى العبث بحسب تلك المقولة أن وراء الأكمة لا ازدحام بل أحدهم، أو هو أبو ذنب وأبو جلد تسكر له الموضة ومقصد الأزياء الدافئة.

وأريدكم أن تسمعوا عن بيروت هذه الحمراء حيث نحن، وحيث كانت لنا منطقة الهوس وكأس الكؤوس والملح والبهارات وهنّ سبع ونحن بدأناها وافتتحناها على مقاعدها وإلى طاولتها وهي إحداهنّ في ذلك المقهى المبتدئ والذي كان النعيم والهيصات ويؤوي الرغائب المتناسقة.

وليس أن تعرفوا أنني منذ تلك الضيعة، كما فعلت الحكاية، حكاية الفتاة والملك وابنه والحذاء وفردة الحذاء الضائعة، رحت في المدينة حيث الترحال والاغتراب إلى ما بعد منتصف الليل، لأجد أين العنزة وأين المرقد وأين الرائحة من ذلك الزمان، من ذلك المطرح والموقع. وأين أنا ومن أي شيء هو العلامة لأبدأ، لأبحث لأصادفها تلك العنزة المهضومة والتي تغرق منذ باب الألف في حقل الشقاء، وتظل لاهثة إلى أن يأتي الكتاب أو القصيدة أو القارئ أو الصبي أو الشاعر ويقول لها مطلع الديمومة وأرجوحة السعادة، ونيّال من له، ذلك المرقد.

وكانت العنزة في بيروت الحمراء هي تسير وراء الرجل وفي قيادة الراعي وأنا، ولعلّها الصدفة بل ما يؤلف الحقيقة، هي سارت بي في منطقة الحمراء، في تلك الآونة لأقول إنه هنا المرقد. وكلنا نفتش عن العنزة سوداء أو غير تلك السحنة وكانت مرة تنطحني ومرة أنا أفعل وتجيء الحشيشة إلى فمها ومرة تتركني على رسلي على تؤدة ومرّة تقذفني خطوات إلى اليمين، وخطوات إلى المزاح وصوب عشبة الصداقة الملتهبة، وحيث ما زالت حيّة هي المغناجة، وأنا أغذيها وأمنحها لتظلّ تحت دفء العافية، وأهشّ لها إما بمقالة لسمير عطالله وإما بفكرة ونظرة من الدكتور علي الصمد، وإما بقصيدة لنعيم تلحوق، وإما بالبحث والنظرية من الصديق عبده لبكي، وإما بالفكرة الدائمة

الحماسة من الصديق المؤبّد سليمان بختي وأما بخاطرة وبلمعة من الصديق المؤبّد محمود شريح، وإما بالكلمة الدقيقة من الصديق سلمان زين الدين، وإما بفكرة ونظريّة من الصديق سركيس أبو زيد، وإما بالعمل المزهر والشاق من الحبيب الرئيس رئيس بلدية زغرتا إهدن الدكتور سيزار باسيم، وإما بالصديق الرنّان وكأنه العود والقانون الصحافي والشاعر لامع الحرّ، وهي تنطحني إن لم آخذ من عقل العويط قصيدة أو مقالة لأنه شاعر الكلمة وناثرها ليحاصرها بالنظرة المستقيمة.

وترغب هي في مسرحية أو فكاهة عارمة للأب فادي تابت، وترغب في القراءة من نصوص فوزي يمين ومحسن يمين حيث السكينة الخلاّقة تناقض محاسن الفوضى، وحيث الفنان سميح زعتر يبدع الصورة.

ويا بيروت الحمراء يا مرقد العنزة السابق الذكر والشكران والفصاحة سأظلّ أسقيك وأسقي نفسي لتكون الزهرة، لتكون كما ينبغي للهندام أن يكون، وأن تنبت من صوبي ومن صوبك شجرة المرحبا ومرحبا يا قوم الذوق والسحابة الممطرة، ولا قبعة على رأس الصباح لأنه كذلك ولأنه مشغول بأن يستقبل الأخت الشمس، أختنا في العزوبية ولا خاتم يشرق وحده من المنجم ليقول إنها تفتش الكون عن عريس يقودها إلى المعبد، إلى العرس حيث النار ولا حاجة إلى الكبريتة ليكون، ليفور الطعام، ليكون وافراً وطوفاناً من الحلوى ومن دست الشورباء والروح ترفرف ويباركنا سبحانه ويرسل ملاكه ضيف المائدة وجدّنا التاريخ على كرسي النجمة هي أعارته ليكتب الوصية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى