الولايات المتحدة والصين: علاقة المأزوم مع الصاعد

نزار عثمان

لم تكف المناكفات بوتائر متفاوتة بين الولايات المتحدة والصين منذ تسلم دونالد ترامب سدة الرئاسة في البيت الابيض مما يقارب السنتين. والحقيقة أنّ هاجس القوة المتصاعدة للصين لم يغادر إدارات أميركية سابقة أيضاً، وكان آخر هذه التوترات توجيه واشنطن 13 اتهاماً لشركة هواوي الصينية في قضيتين يرجح تصاعد حدة التجاذبات مع أكبر شركة مصنعة لمعدات الاتصالات في العالم، وذلك قبل أيام من محادثات تجارية بين واشنطن وبكين التي سارعت لوصف اتهامات واشنطن بأنها «تلاعب سياسي».

على هامش التقدير الاستخباري للولايات المتحدة لعام 2019، الذاهب لاعتبار الخطر الخارجي الأكبر الذي يتهدّد أميركا يتمثل رأساً بكلّ من الصين وروسيا، وعلى الرغم من موقف ترامب السلبي منه، غير أنّ هذا التقدير يكشف واقعاً عن هواجس وحقائق في دوائر صنع القرار في واشنطن، لم يعد بالإمكان إخفاءها. وهنا مع غضّ الطرف في هذه السطور عن «الخطر الروسي»، سيتمّ السعي للاضاءة على «الخطر» الصيني، مع التلميح إلى ما تشكله الصين من قدرات كامنة تهدّد الهيمنة الاميركية على العالم، وتبشر بنهاية القطبية المركزية لها.

ومن الجدير التذكير أنّ حرباً تجارية قد اشتعلت بين كلّ من بكين وواشنطن خلال شهر آذار الماضي، وتمثلت برفع الضرائب على الواردات بينهما. وتبلورت من خلال تعطيل تدفق البضائع بسبب رسوم جمركية. بعدها ارتفعت حدة الحرب الاقتصادية بين الطرفين لتبلغ ذروتها في حزيران 2018 عبر عقوبات فرضتها الولايات المتحدة على الصين، غير أنّ شدة التوتر قد هدأت ابتداء من كانون الأول الماضي عبر الإعلان عن هدنة لمدة 90 يوماً، يتم فيها إجراء مفاوضات يدور البحث فيها بإطار الوصول إلى أرضية مناسبة للتبادلات التجارية بين الطرفين.

هذا وإن التفتنا إلى الماضي القريب جداً، في ما خصّ الموقف الأميركي الاقتصادي القلق من الصين، لظهرت معنا بوادر الخوف على المكانة العالمية لواشنطن تتمثل بدءاً من تقرير صندوق النقد الدولي الصادر عام 2014، والذي يعتبر الصين أكبر اقتصاد في العالم بحسب القوة الشرائية، مع تراجع الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانية. وبالنظر الى تاريخ أبكر يظهر أنه في العام 2009، أصبحت الصين أكبر مصدّر للسلع في العالم، مزيحة بذلك الولايات المتحدة عن هذا المركز، الذي تربّعت عليه منذ الحرب العالمية الثانية.

يعتبر جيدون راشمان في كتابه «الشرقنة صعود آسيا وأفول أميركا»، الصادر عام 2017، أنه ومنذ عام 1945، كان جميع الرؤساء الأميركيين يتشاركون في الالتزام بنظام دولي مبني على ركيزتين أساسيتين، الأولى وتتمثل بتعزيز التجارة الدولية، والثانية تتبلور بالنظام الأمني العالمي الذي يعتمد على التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة. ويرى في ترامب تهديداً لكلتا الركيزتين معاً.

وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ خطورة اندلاع صراع بين القوتين تبدو أمراً غير مستبعد، وهو ما شهدناه تجارياً على أقلّ تقدير حتى الآن. فترامب بشعاره «أميركا أولاً»، وردود أفعاله غير المدروسة، بل قل العدوانية، واستعداده للمزج بين قضايا الأمن والاقتصاد، ونظرته للالتزامات والتحالفات العسكرية والأمنية كجزء من مجموعة متصلة من القضايا التي يمكن استخدامها كورقة مساومة في مفاوضات واسعة النطاق، لا يهدّد فقط التجارة العالمية، وانعكاساتها على العلاقات الثنائية مع الصين، بل أيضاً تحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية وحلفاء آخرين في تلك المنطقة. ما يفقد أميركا مصداقيتها فضلاً عن عقيدة الردع المرتبطة بها، بالإضافة طبعاً لأركان أساسية، وحلفاء تاريخيين يمكن لواشنطن الاتكاء عليهم في جنوب شرق آسيا.

لعلّ المخاوف الأكثر عمقاً بالنسبة لترامب حول آسيا تتمثل بالاقتصاد. والواقع أنه لطالما اعتبرت النظرية الاقتصادية التقليدية للإدارات الأميركية المتتالية، أنّ ثروة الدول الآسيوية المتنامية تمثل شيئاً جيداً بالنسبة للولايات المتحدة، ذلك انها تخلق أسواقاً أكبر للشركات الأميركية وتوفر السلع الرخيصة للمستهلكين الأميركيين. لكن ترامب ومستشاريه يرفضون هذه الفكرة بشكل قاطع. فهم يلقون بلائمة الركود في مستويات المعيشة التي يعاني منها الأميركيون على «العولمة». يرى ستيفن بانون، كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاستراتيجية السابق، ذاهباً: «لقد أتعب العولميون الطبقة العاملة الأميركية ودعموا الطبقة الوسطى في آسيا». وفي رأيه، أنّ تزايد الثروات في آسيا، وبعيداً عن كون ذلك إطاراً مفيداً للطرفين في ما خصّ الاقتصاد السائد «قد أضعفت الولايات المتحدة».

وعلى الرغم من التقدّم المحرز في الوقت الحالي، والذي عبّر عنه ترامب في أكثر من مناسبة خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي عن تطوّر في العلاقات مع الصين، ينحو باتجاه حلّ الخلافات والسعي لاتفاق شامل، إلا أنّ توصيف هذه الحالة بين البلدين قد يصدق عليها الاعتبار بأنها إزاحة مؤقتة لقمة جبل الجليد بين القوتين العظميين، فلا الولايات المتحدة سترضى بتعاظم الدور الصيني على مستوى جنوب شرق آسيا على وجه الخصوص، مع تزايد مخاوف حلفاء واشنطن التقليديين في تلك المنطقة، والعالم بالعموم، بما في ذلك التعاظم من خطورة على مركزيتها العالمية. ولا الصين ستنهي حلمها بالتفوّق والسيطرة، أخذاً بمقدراتها وإمكانياتها المتزايدة والمتضاعفة بشكل مطرد.

وبلمحة سريعة سابقة، يعكس الواقع أنّ نظرة القلق المفعمة بالهواجس من الصين ليست مستجدة أو عارضة أو محصورة بولاية ترامب فقط. فقد عانى أوباما في ولايتيه من ملفين رئيسيين في ما خصّ السياسة الخارجية، الأول ويتمثل بالصراعات في الشرق الأوسط، والثاني تصاعد قوة الصين وما تشكله من تهديدات على استمرارية الهيمنة الأميركية. وإذ مُنيت إدارته بفشل ذريع في محاولاتها إنهاء ملف الشرق الأوسط للتفرّغ لجنوب شرق آسيا. وصل الأمر به في العلاقات الثنائية مع الصين ومحاولات تحجيمها إلى حائط مسدود أيضاً.

هذا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أما بالنسبة للصين. ودون كثير من الاستشهادات والتحليل، بحسب ما يقتضيه هذا المقال، نكتفي بنقل ما ذكره أحد أهمّ الأعلام الصينيين، بما يعكس الروحية السائدة في مجتمعه، إذ يرى الكولونيل ليو مينغ فو في كتابه الواسع الانتشار – «الحلم الصيني»، المنشور عام 2010: «لقد كان حلم الصين لقرن من الزمن أن تصبح الدولة الرائدة في العالم». ويذهب إلى أن صعود بلاده هو جزء من نهضة آسيوية أوسع. ويرى أنه «عندما تصبح الصين الدولة الرائدة في العالم، فإنها ستضع حداً للمفاهيم الغربية للتفوق العنصري»، معتبراً أنّ آسيا هي أكبر قارة، ويجب أن يكون لها أمة رائدة في العالم بكلّ المجالات والحقوق.

بالنسبة لليو، فإنّ الحلم الصيني هو جزء من تحوّل أوسع للقوة من الغرب إلى الشرق. ويعتبر أنّ الصين ستقف في قلب عصر جديد من الرخاء الآسيوي، وستكون فاتحة لعالم أكثر انسجاماً. لأنّ قيادتها ستكون بحسبه – أكثر حكمة من قيادة الولايات المتحدة. إلى جانب هذه الرؤية عن الانسجام النهائي في العالم الذي تقوده الصين، هناك فكرة أكثر خطورة عن المواجهة الحتمية مع الولايات المتحدة. إذ يعتقد ليو أنّ الولايات المتحدة ستعمل بطبيعة الحال على منع صعود الصين كمنافس، تماماً كما أحبطت في الماضي اليابان والاتحاد السوفياتي.

واليوم، إذ تمدّ الصين علاقاتها الاقتصادية والثقافية لأكثر من قارة. وتعقد الاتفاقيات على مستويات رفيعة في العلاقات الثنائية بينها وبين بلدان عديدة. كان لفنزويلا على وجه الخصوص حصة منها، إذ بحسب الرئيس الفنزويلي مادورو بلغ إجمالي الاستثمارات في الاقتصاد الفنزويلي بمساعدة من الصين، 62 مليار دولار. هل يكتسب السؤال مشروعية، حول ما إذا لعب وصول المدّ الصيني لأميركا اللاتينية، وبالتحديد لفنزويلا، سبباً في الانقلاب المدعوم من إدارة ترامب، الذي تشهده فنزويلا هذه الأيام؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى