النص الإعلامي السياسي…

د. قصي الحسين

كان لكتابة خيري منصور، غير وجه الشاعر والناقد والأديب. جمع إلى ذلك أيضاً كتابة النص السياسي المتميّز.

جمعتني به جريدة «الخليج» لعشر سنوات أو تزيد. كنت أتابعه عن قرب. كنت أقرأ بين سطور مقالته السياسية، شغفي بأن أحتذيه وأتعلم منه الثقافة الأسلوبية والثقافة الفكرية والثقافة المعرفية. كنت آمل بذلك، أن أتعلم منه كتابة «النص السياسي».

فليس من السهل على الإعلامي، أن يتقن هذا النوع من الكتابة، التي تذبح القلم.

نشر مرة في جريدة «الدستور» الأردنية التي كانت تمنحه امتيازاً من النادر أن تمنحه لغيره، مقالاً، حمل فيه على الموقف الفرنسي من إحدى المسائل السياسية العربية، فأثار حفيظة السفارة الفرنسية في عمّان.

في صبيحة اليوم التالي، دعاه رئيس التحرير إلى مكتبه، فدخل خيري منصور، ليجد الملك حسين هناك، يستقبله، ويشرح له، أنّ مقاله، كاد أن يتسبّب بأزمة مع الفرنسيين وغيرهم، ما يستدعي من الإعلام الإنتباه والحذر في تقديم «النص السياسي».

كان ذلك درساً لخيري منصور، في ضرورة صيانة مهابة وعمق ورشاقة «النص الإعلامي السياسي»، وضرورة تعلم كيفية النأي عن السطحية والمباشرة والتجريح والإبتذال والتملق، والعمل على أن يجعل منه نصاً محتشداً، فكراً وثقافة ومعرفة.

فالصحافي أو الإعلامي بعامة، يجب عليه أن يكون نتاج تجربة حياتية ثرية. وأن يجعل وطنه وقضاياه في قلب كتاباته ومواقفه. وأن تكون تجربته، دليله، ليس في التمسك بذلك وحسب، بل في الإنحياز الإنساني العام لقيم المجتمع: قيم العدالة والتقدّم والرقيّ، ولقيم الوطن العليا، والتي في طليعتها المحافظة على السلم الأهلي والبناء عليه.

ولكثير من الإعلاميين، مهاراتهم وقدراتهم ولياقاتهم المشهود لها في الكتابة، غير أنهم لم يقرنوا ذلك بالثقافة والوعي الثقافي بالبرهة السياسية وسخونتها. وهي ما تمكنهم من ضرورات التفريق بين الجدّ والهزل، بين برهة وبرهة وبين موقف وآخر.

فرجل الإعلام، من لا يفرط في شروط الكتابة المسؤولة، وفي شروط تحرير النص السياسي المسؤول، في غمرة الحرص على المتابعة المهنية واستدامتها من جهة، وعلى التجديد والتجويد فيها من جهة أخرى.

والتمكين الثقافي وحده، الذي يأخذ به إلى عمق المحتوى. فيؤدّيه بأسلوب ثقافي راق، وبلغة ملأى بالمعنى، دون حاجة إلى الإطناب أو الإسترسال أو التكرار، فتركّ العبارة وتترهّل، ويتهلهل معها النص.

ذلك أنّ النص حين يكتب بقلم موهوب ومتمرّس، يسطر أعمق المعاني، لا أدناها ولا أسفهها. ولا تجد إسفافا فيها.

إنّ تثقيف السياسة من عدمه، للإعلامي اللبناني بخاصة والإعلامي العربي بعامة، هو ما يميّز التجربة بنجاحها من عدمه.

ذلك أنّ السياسة تخترق كلّ تفاصيل حياتنا اليومية. وتتصل بمصائر الأوطان، ومستقبل الجماعات. وكذلك بأمن المواطن وبحقوقه وبجوانب حياته كافة. ولذلك على الإعلامي، وعلى قاعدة من الإرتداد المماثل التي تحدّث عنها، دروكهايم، أن يحرّر النص السياسي، بقلم الصحافة التي تثقف السياسة، وتضفي عليها من روح الثقافة نفسها، فلا تعود «شعارية» أو «دوغمائية»، تكرّر نفسها وتسفهها وتعبث بها، قبل أن تعبث بالموقف الذي يتطلب الجدّ بدل الهزل، بحسب نظرية القدماء الأصفهاني مثلا .

إنّ متانة التكوين الثقافي والمعرفي والفكري، لا يقلّ شأناً في تأثيره على الصحافي والإعلامي، من تكوينه الإبداعي والمهني.

فالثقافة هي التي تقطر خلاصات المعارف، وتجعلها تثري النص السياسي بالأدب والفكر والمعرفة والتاريخ، بهدف التأسيس لقارئ مختلف. بل هي التي تحسن التعامل السيكولوجي والأخلاقي بالنص السياسي. وهو بذلك يراعي ضرورات أدب القارئ، بقدر ما يراعي ضرورات أدب الكاتب.

في هذا المجال، كتبت الإعلامية جيهان منصور: «في بلاط صاحبة الجلالة، يغريني دائماً التنوّع في المصادر والإختلاف في التناول. وهو ما يثقل الخبرات. ويفتح آفاق العقل لرؤية أوسع، وأجندات تحريرية مختلفة، مما يجعل أبعاد القضية وخلفياتها تكتمل في عقل الإعلامي. هنا يكمن التميّز الذي يشكل البصمة والإنفراد.

فلهذة المهنة شغف وبريق خاص، يتطلبان دوام البحث والتعلم، لأنّ للحقيقة أوجه كثيرة، ولا يكشفها مصدر واحد ولا رواية واحدة. فالسرّ دائماً يكمن في ما لا يُقال، في المسكوت عنه. والحقيقة قابعة بين وخلف السطور، ولهذا تسمّى مهنة الصحافة والإعلام، «مهنة البحث عن المتاعب. « الشرق الأوسط- العدد 14678 /الإثنين4/2/2019 – ص19 .

أما الديمقراطية، فهي سياق مشروط بتقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي ومؤسسات وضمانات أمان. وإلا أنت إذن في لبنان…

أستاذ في الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى