إبراء أهل النظام الطوائفي مستحيل… فما العمل؟

30

د. عصام نعمان

تابَعَ، ولا أقول استمتع، اللبنانيون مسؤولينَ ومواطنين، منذ نحو شهر حلقات مضحكة مبكية من مسلسل «الفساد» الذي لا يعرف أحد متى تنتهي حلقاته المتناسلة. فالفساد حالة لبنانية عمرها من عمر النظام الطوائفي المركانتيلي منذ مأسسته على أيدي المستعمرين الفرنسيين العام 1920 وتوريثه، بعد «الاستقلال» العام 1943، لمتزعّمي الطوائف كابراً عن كابر إلى أن انتهى في قبضة شبكة سياسية متحكّمة مؤلفة من هؤلاء، يشاركهم في تقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ رجالُ أعمالٍ وأموال متعطشون إلى السلطة وبارعون في استغلالها، ومتنفّذون في أجهزة الأمن.

تعاظَمَ جمهور مسلسل «الفساد» مع تصاعد شكوى الفقراء وذوي الدخل المحدود من الضائقة المعيشية، وكوارث النفايات، وانقطاع الكهرباء والماء، وتفاقم غلاء الغذاء والدواء، وتزايد المخاوف والتخويف من انهيار اقتصادي وشيك نتيجةَ تجاوز الدين العام عتبة المئة مليار دولار.

المسؤولون عن الفساد ثلاث فئات: المرتكبون، والمستفيدون، والساكتون عن هؤلاء وأولئك. إزاء تعاظم شكوى المتضرّرين من الفساد، وهم أكثرية اللبنانيين، استشعر الساكتون خطورة تخلّي قاعدتهم الشعبية عنهم وجلُّها من ضحايا الفساد فقرّروا فتح ملفات الفساد المزمنة لتحديد الفاسدين وتحميلهم المسؤولية القانونية والسياسية.

في مقدّم الساكتين عن الفساد دونما المشاركة فيه أو الاستفادة منه قادةُ حزب الله. مردُّ سكوتهم إنشغالُهم بما يعتبرونه الأولوية الأولى: مقاومة العدو الصهيوني. لكن مع تعاظم شكوى قاعدتهم الشعبية، وجلّها من الفقراء وذوي الدخل المحدود، قرّر قادة المقاومة الخروج من الصمت ومطالبة الحكومة عموماً ووزارة المال خصوصاً بإنجاز الكشوفات المتعلّقة بكيفية صرف مليارات الدولارات من اعتمادات ومساعدات وهبات كانت الحكومات المتعاقبة قد امتنعت منذ مطالع العام 3199 عن كشف قيودها وسبل انفاقها.

المتضرّرون من حملة فتح التحقيق في ملفات الفساد وكشف الفاسدين، وجلّهم من خصوم حزب الله، سارعوا إلى مواجهة العاصفة وتطويق مضاعفاتها القضائية والسياسية بتدابير «وقائية» أبرزها:

أ ـ تصوير الحملة بأنها تستهدف جماعة الحريريين والطائفة التي ينتمون إليها، ما ينعكس بالتالي سلباً على الاتفاق الضمني بين التيار الوطني الحر وحزب المستقبل الذي حمل العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وجعل ولادة حكومة سعد الحريري ممكنة بعد تسعة أشهر من الصراعات والمماحكات.

ب ـ الترويج لمقولةٍ مفادها إنّ حملة التحقيق والتدقيق في ملفات الفساد والفاسدين تستهدف جميع من تولّى السلطة وشارك في حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري ونجله وحلفائه وذلك بقصد تخويف هؤلاء جميعاً ودفعهم الى التكاتف في مواجهة الحملة الخطيرة الماثلة.

ج ـ الدعوة الى توسيع دائرة التحقيق لتتناول جماعة المقاومة الذين «ورّطوا» كذا لبنان العام 2006 بحرب مع «اسرائيل» لا طاقة له على تحمّل مفاعيلها من جهة، ومن جهة أخرى تلقّوا هبات ومساعدات أغدقها متعاطفون مع اللبنانيين في محنتهم وقاموا بصرفها بمنأى عن رقابة الهيئات الحكومية ذات الصلة.

بات واضحاً انّ جوهر مسألة الفساد هو التصرف بمليارات الدولارات، بحق أو بغير وجه حق، دونما إجازةٍ من مجلس النواب او مجلس الوزراء وعلى نحوٍ مخالف للقانون وللقواعد المحاسبية المرعية الإجراء.

إزاء انكشاف عمليات صرف تلك المليارات من الدولارات دونما اعتماد الأسانيد القانونية والأدلة الثبوتية المتوجبة، سعى المشتبه بفسادهم وإهدار المال العام الى تبرير أفعالهم بسوء الظروف الأمنية والسياسية التي حالت دون إقرار قوانين الموازنات السنوية المتوجبة ما أدّى الى عدم قيد المساعدات والهبات الواردة في أبوابها ولا إلى ضبط وجوه إنفاقها.

الى اين من هنا؟

يقول بعض منظّري الشبكة السياسية المتحكّمة إنّ المرتكز الأساس للنظام الطوائفي القائم ليس الدستور ولا القوانين ولا الأنظمة المرعية الإجراء بل التوافق بين متزعّمي الطوائف وحلفائهم من رجال أعمالٍ وأموال، وانّ هؤلاء يدركون مخاطر الاسترسال في حملة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين لأنّ من شأنها تعريض نظام المحاصصة الطوائفي ذاته ومصالح أهله والمستفيدين منه إلى الانهيار. ذلك يستوجب، في تقديريهم، مبادرة أركان الشبكة المتحكّمة الى التحاور والتفاهم على مخرج من الأزمة، أزمتهم، يكون بمثابة تسوية لحماية النظام وإعادة إنتاجه حتى لو اقتضى الأمر تقديم بعض الضحايا والتضحيات والتنازلات.

يبدو أنّ عدم وجود معارضة وطنية تقدّمية موحّدة، نقيضة للنظام وقادرة على إزاحته وبناء نظام بديل، سيمكّن أركان الشبكة المتحكّمة من اجتراح تسوية للصراعات والاختلالات محورُها معادلة منقّحة للمحاصصة تحمي مصالح أاهل النظام من جهة، ومن جهة أخرى تسترضي جمهور الفقراء وذوي الدخل المحدود وما تبقّى من الطبقة الوسطى ببضع عطايا وتقديمات ومساعدات.

تسوية كهذه ممكنة وقابلة للاستخدام بعض الوقت، لكنها لن تشكّل إبراءً لأهل النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد من شرور ارتكاباتهم. الإبراء الكامل مستحيل.

ما العمل؟

لا خيارَ مجدياً أمام القوى الوطنية التقدمية إلاّ تفعيل نهج المعارضة الشعبية الجدّية المتواصلة بنَفَس طويل بغية تحقيق أهداف ثلاثة:

أولاً، العمل على إنجاز مستوى عالٍ من التضامن والتنسيق كشرط للارتقاء الى جبهة عريضة تحتضن كتلة شعبية وازنة.

ثانياً، إسقاط الوهم بإمكانية القضاء على الفساد والفاسدين وبناء الدولة المدنية الديمقراطية بوجود نظام المحاصصة الطوائفي المركانتيلي الراهن.

ثالثاً، التوافق على إرساء والتزام برنامج مرحلي للنهوض وبناء الدولة بأولويات سياسية واقتصادية واجتماعية واقعية ومتطوّرة.

… والمناقشة مفتوحة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى