رؤية نقدية لرواية «كمين» للزميل طلال مرتضى

القاص أحمد رزق حسن

«وحيد في غربتي أجلس كل يوم على ضفة التعب آخر مسيل الدمع، وأجهش بالبكاء. كفّرتني المنافي حين قلت: أشهد أن لا أم إلا أنت يا دمشق وأشهد أن محبوبتي بيروت كهاتين من أصابعي في المنة». هذا جزءٌ مما كتبه الروائي طلال مرتضى على غلاف روايته.

يحدثُ أن يطربك شدو عصفور حزين داخل قفصه فيَأخذكُ لعوالم من الخيال المريح للفكر، كما يحدث أن يبهرك رقص طير يذبح فيغوص بقلبك في بحور من العذاب والحسرة، كما يحدث أن يدهشك قلم مغترب بالتعبير عن مأساته وهو بعيد عن وطنه فيمتعك أيما إمتاع.

وهذا ما قام به الروائي طلال مرتضى بروايته كمين الصادرة عن «دار بعل» بدمشق لعام 2017 والتي ظهرت لقارئها بمئة وخمسٍ وخمسين صفحة من القطع المتوسط، حيث جاءت مقسّمة لسبعة وعشرين فصلاً تراوحت بين الطول والقصر. تطرح الرواية إشكالية الانتماء والانتماء المضاد في حياة أبناء هذا الجيل الذي يعاني من ويلات التخلّف والذي يعيش يومياً عمق المأساة، وتظهر الرواية قضية شعب مظلوم يطمح لنيل كامل حقوقه المغتصبة. تنطلق الأحداث برصد مجريات عملية فدائية يحضّر لها مجموعة من المناضلين المرابطين بأرض فلسطين المحتلة بغية إحداث رجة قوية تزلزل أركان الكيان الصهيوني المغتصب. وبين فصل وآخر ينقلنا الكاتب المبدع بقفزات سردية رشيقة ليظهر لنا علاقة أحد هؤلاء الفدائيين الشباب «سجاد» بمجموعة شخصيات أخرى تعيش بمكان ليس ببعيد عنه، كما يظهر لنا قصة حب غريبة للغاية حدثت ببلاد المهجر بين شاب وفتاة «ربيع، صوفي»، تنتهي هذه القصة بنهاية مأساوية تراجيدية.. كما تمرّ الرواية بأحداث هامة، غيّرت من مجريات تاريخ العرب المعاصر كحرب تموز في عام 2006 التي كُسرت بها شوكة الصهاينة المتجبرين.

والآن سأدخل معكم إلى هذا الصرح الأدبي الشامخ من خلال سبعة أبواب:

أولها صور الغلاف التي رُسمت باللونين الرصاصي والأصفر، حيث أظهرت رأس حصان يصهل، رقبته مشكلة من مجموعة من البيوت وبين هذا وتلك ظهرت شمس صغيرة بلونها الأصفر كما أخذ نفس اللون العنوان، لنرى أيضا بزاوية الغلاف غراباً بعين حمراء يحاول مسك يد تمد له. الحصان يمثل القائد العربي الأصيل الذي سينطلق لتحرير الأراضي المغتصبة وستكون قوته نابعة من شعب لم يرض الذلّ والهوان، موجود في هذه البيوت، والشمس تمثّل الغد القادم الذي سيكون كميناً يحمل النصر المؤكد لهذه الأمة المنكوبة، وأما الغراب يمثّل قوة الشرّ في العالم التي تساعدها أيادٍ خبيثة في محاولة تزوير الحقائق وطمس هوية الأرض.

العنوان… فضاء واسع للتأويل

ثانيها العنوان، فالعنوان لأي عمل أدبي يعدّ من أهم العناصر التي يتشكّل منها النصّ حتى أسماه الناقد الفرنسي جيرار جنيت بالعتبة.. فهو عنصر مهم يلج من خلاله القارئ إلى عالم النصّ وليس هو بفضلة لغوية، فكلمة كمين تعني موضعاً يختفي فيه شخص ولا يفطن له الأخر، وقد ذكر صراحة كعنوان بفصلين في الرواية، والسؤال هنا ماذا قصد طلال مرتضى بالكمين هل ما نصبه الفدائيون للصهاينة، أم هو كمين الحب الذي نصبته صوفي لربيع ثم تركته وسافرت، الجواب هو ذاك وذاك، لكن العنوان جاء كلمة نكرة غير معرفة وبلون مبهج، اللون الأصفر، ومن هذا نستنتج أن الروائي فتح لنا فضاءات شاسعة من التأويل، ولعله أوقعنا بكمين محكم من السرد المشوق بغية أن يرسّخ بأذهاننا فكرته العظيمة.

بناء الرواية… ترابط وتركيب

إذا طلبت الآن منكم أن تذكروني بأجمل قصة أو رواية قرأتموها في حياتكم، لا شكّ في أن أذهانكم ستجتهد لتلخيص حبكتها الجميلة، فالحبكة تعرف بأنها الترتيب السببي للأحداث ولها نوعان من حيث البناء: الحبكة المُفكَّكة ، و الحبكة المتماسكة ، الحبكة المفكّكة تُبنى على سلسلة من الحوادث أو المواقف المنفصلة التي لا يجمعها رابط، والحوادث فيها بعيدة عن التسلسل والانتظام، فالكاتب يُقدِّم لنا مجموعة من الحوادث الممتعة التي تقع على شكل حلقات متتابعة لا تنحدر الواحدة منها عن الأخرى ومن الأمثلة على هذا النوع قصَّة زقاق المدقّ لنجيب محفوظ.

أمَّا الحبكة المُتماسكة فتقوم على حوادث مترابطة يأخُذُ بعضها برقاب بعض، وتسيرُ في خطٍّ مُستقيم حتَّى تبلغَ مُستقرَّها، وأكثر القصص المعروفة من هذا النوع «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم.

أمَّا من حيث موضوعها فتنقسمُ الحبكةُ لنوعين هما الحبكة البسيطة، والحبكة المُركَّبة، ففي النوع الأوَّل تكونُ القصَّةُ مبنيَّةً على حكايةٍ واحدة، أمَّا في النوع الثاني فتكونُ مركَّبةً من حكايات كثيرة… وتُمثِّل رواية «زقاق المِدقّ» لنجيب محفوظ الحبكة المُركَّبة، فقد استطاع الروائي أنْ يقُصَّ حكاياتٍ كثيرة جامعاً إياها برباطٍ خفيٍّ هو الزقاق نفسه أو الانقلاب الذي حدث في حياة أهل الزقاق نتيجة الحرب العالمية الثانية.

ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ الحبكة تعتمدُ على تسلسل الأحداث وما ينجمُ عنها من مفاجآت ومُغامرات وما ينبثقُ عنها من عواطف وانفعالات كالقصص البوليسيَّة والقصص الرومانسيَّة. أما ما هي عيوب الحبكة المفككة فتتلخص بأنها: تسبّب التشتت لدى القارئ، وتولد عجزاً لدى الكاتب بإجادة الربط بين أحداث متنوعة، وأما عيوب الحبكة المتماسكة فإنها تؤدي للافتعال والتكلف، وتقلّل من عنصر الإثارة والتشويق وحوافز التغير، كما يصبح السرد كلاماً مصفوفاً بتكلّف يدفع للفتور والملل.

طلال مرتضى بنى منجزه الأدبي بناء فنياً مشوقاً مستخدماً حبكة مفكّكة مركبة فقد تناول حكايات عدة، فكان يروي أحداثاً جرت بالأراضي المغتصبة مثلا ثم ينتقل بفصل آخر ليروي أحداثاً جرت في روسيا دون وجود أي رابط ملموس. وقد أظهر الكاتب الصراع القائم بين العرب والصهاينة بشكل واضح، موحياً للقارئ أن القصة المرويّة حقيقية وواقعية ليفاجئنا بنهاية الرواية بخاتمة قسمت ظهر المعنى نصفين، أظهرت أن بعض الشخصيات كانت وهمية، حبيسة الورق، كـ»ربيع وصوفي». الروائي طرح أفكاره بأسلوب الراوي الموضوعي مستخدماً ضمير هو، هي، هم بأغلب فصول الرواية ولكن لم يخل السرد من وجود الراوي الذاتي الذي كان يظهر بومضات سردية بارقة لنفاجئ بظهوره كمحاور بارع ومبرّر لمواقف الكاتب باختيار مصائر شخصياته في الفصول الأخيرة من الرواية.

شخصيات… بأفكار مضادة

وصل عدد شخصيات الرواية لست عشرة شخصية كان منبعها وليس بطلها، «ربيع» الذي ظهرت شخصيته مركبة تفاعلت مع الأحداث وتأثّرت بها، حيث قامت بتصرفات عدة منافية لما تؤمن به، فهو بطل الرواية التي كان يقرأها «أبا سجاد»، متيم بحب فتاة يهودية رغم كره أمها له، وهنا لا أنكر عليه الحب لكن أنكر عليه أنه تركها تنجب منه طفلاً عربياً اصطبغ قلبه بصبغة صهيونية دفعته لقتال العرب حتى وقع أسيراً بيد «سجاد».

أما عن بقية الشخصيات كانت من النوع الثابت فهي لم تخرج عما رسم لها الكاتب من حدود، كـ»خديجة» المرأة العربية الوطنية، و«سجاد» الفدائي المخلص، و«صوفي» اليهودية المتعلقة بما ورثته من معتقدات خبيثة عن أمها، والشاعر عصام المناضل المخلص، وأقصد هنا بثابتة أن هذه الشخصيات لم تتبنَ فكرة ببداية الرواية وخرجت بنهاية الرواية بفكرة مضادة.

في الماضي القريب…

تظهر الأحداث أن زمان الرواية كان في الماضي القريب إبان حرب تموز، ولكن بتقنية الفلاش باك عاد بنا الروائي عشرين عاماً للخلف، ليظهر لنا قصة الحب بين «ربيع» و«صوفي».. ولكن الصدمة الكبيرة التي جاءت بها النهاية أظهرت أن كل أحداث الرواية كانت عبارة عن حلم وهلوسات عاشها سجاد، المصاب بحمى لعينة وهو ببيت أبيه، فالزمان الحقيقي للرواية قصير قد لا يتعدى أيام.. ولكن زمان السرد كان طويلاً تجاوز ثلاثين سنة أو يزيد بقليل.

تنوّعت الأماكن التي كانت مسرحاً واسعاً للشخصيات، فانتقلت عين السارد لترصد لنا مناخ قرى من فلسطين وجنوب لبنان.. كما عرفتنا ببيروت العاصمة العربية التي عيونها لا تنام وشارع الحمرا وحي السلم ذي الخدمات السيئة.. وقفزت بنا إلى كييف وستالينغراد حيث قبر الزعيم السوفياتي ستالين الذي نكّل باليهود أيما تنكيل بعد أن حاولوا تسميمه.

النهاية الصادمة

جاءت صادمة للغاية كما ذكرت سابقاً، إذ ظهر أن سجاد كان يحلم وخديجة لم تستشهد إثر قصف صهيوني استهدف النازحين المتوجّهين للأراضي السورية بل كانت بجواره تطببه، وكانت المفارقة الحقيقية تتمثل بأن «صوفي» حبيبة «ربيع» كانت يهودية.. وربيع العربي المحب لستالين الذي لم نعرف علاقته بـ»أبي سجاد»، هل هو صورة عنه، وماذا حدث به بعد سفر «صوفي» لفلسطين. والسؤال هنا كيف أحب «ربيع» فتاة يهودية وتركها تنجب طفل دون أن يعلم عنه شيئاً، ثم كبر هذا الطفل وصار جنديا صهيونياً، قاتل سجاد بالحلم وأسره الأخير، وبهذه الخاتمة الشائكة للغاية أدخل الروائي الفضاء المتخيل بالواقع ربما عن قصد أو عن غير قصد، وأقول ذلك لأن خيوط رواياته تعددت فما كان منه إلا أن حاول ربطها وجمعها، ولكن لا بد أن أطرح سؤالاً عليكم، هل الحب لا يخضع لقيود المجتمع والوطن، هل يجوز أن يحب المرء فتاة تكره بني جلدته، وهل يا ترى حب محمود درويش لريتا الفتاة اليهودية مباح ومبرر برأيكم؟

لكن ما يؤخذ على الرواية أمران أولهما، في الصفحة 108 يقول: «تلهمني قرض الرياء كي أصلب الله باسم المسيح»، ويقول: بالصفحة 119 «الشاعر المؤمن يقهر ألف نبي مزيف لا تشغله قصص الشرائع والأديان، وهنا يجب التأكيد على أن الأدب صورة من صور الجمال، هدفه التعبير عن قضايا المجتمع، ومساندة الشعوب لنيل كرامتها بهدف مزاحمة بقية الأمم على المراتب الريادية بكل مستويات الحياة، والأدب ينبذ كل مظاهر الإساءة للذات الإلهية والقيم العليا والمظاهر المقدسة التي تطمئن لها قلوب العامة، وأيا كان الهدف والمبتغى من ذكر تجاوزات كهذه، لا يعد نوعاً من أنواع حرية التعبير والخروج عن المألوف».

ثانيهما ذكر الروائي تركيب «الجيش الإسرائيلي» بأكثر من موضع ومرة أرفق الكلمتين بكلمة المحتل، وهنا أقول إنه ارتكب خطأ يشبه خطأ القناص الحذق الذي يحسب بمئة خطأ.. فكلمة جيش تعني وجود دولة وكلمة «إسرائيل» تعني النبي يعقوب الذي ذكر بالقرآن بلفظ «إسرائيل».. وبكل تأكيد هو لم يقصد شرعنة وجود هذا الكيان. أنا أفهم ذلك، لكن الإعلام المسيس أوحى له كما أوحى لنا أن هناك كياناً يأخذ شرعيته شيئاً فشيئاً.. لكن هذا الخطأ لا يقبل بالأدب مطلقاً، وخصوصاً أن يصدر من مثقف وروائي يعرف من أين يؤكل كتف المعنى. التوصيف الصحيح هو الكيان الصهيوني المغتصب.

أظهر الروائي أخلاق العرب ورعايتهم للأسير، وحتى الحفاظ على حياته وتجلى ذلك عندما وهب سجاد شيئاً من دمه لإيغال، فنحن أمة لا نكره اليهود وليست مشكلتنا مع كل يهود العالم، بل مشكلتنا مع الذين اغتصبوا أرضنا تحت شعار اليهودية. نحن شعب لسنا متعطشين للدماء كما يصوّر الإعلام المنافق.. نحن أمة لها حق سلب أمام أنظار الجميع، بعد أن وقف القاصي والداني بصف الجلاد متهماً الضحية بالتعدي عليه.. مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي وقانا الأولى والثانية وغيرها الكثير، إذا نسيها أذناب الاستعمار فنحن لم ولن ننساها، وسنكتب بدم شهدائها لتبقى أعمالنا الأدبية نبراساً يهدي أطفالنا وشبابنا لمعرفة عدوهم الأزلي.. هذا لسان حال الروائي طلال.

وصف الروائي ذعر الصهاينة وخوفهم الشديد من العرب حتى شبههم بالفئران التي تقع بمصيدة الفدائيين. وهذا شيء طبيعي لأن المغتصب لا يمكن أن يهنأ له بال بأرض أخذها عنوة. الأدب رسالة الشعوب، وصاحب الحق لا يهاب عدوّه. وكم كنت أحبذ بهذا الوصف أن يظهر لنا وحشية الكيان الصهيوني وجرائمه المروعة بحرب تموز سنة 2006، فذلك لم يكن ليخرج القارئ عن سكّة السرد، بل سيكون علامة مسجلة ترفع من المستوى الفني لهذا العمل الأدبي المميز.

ختاماً، أعجبني بهذه الرواية اللغة الشعرية المحمّلة بوصف دقيق لمناخ الأراضي المحتلة، ولقد ذكرني هذا الوصف برواية «حق لا يموت» للشهيد غسان كنفاني أيام ما كنت على مقاعد الدراسة، كنت أنا وزملائي ننظر لوجه الغلاف ونحن نرى حيفا ويافا وصفد وعكا بصورة المسجد الأقصى التي كانت مرسومة على غلاف الكتاب، وكم حلمت وما زلت أحلم أن أدخلها، وإن شاء الله ندخلها جميعاً لتلك الغابات والسهول والمرتفعات التي وصفها غسان كما طلال بأسلوب يؤكد أن الأرض لأهلها مهما طال زمان العدوان والاضطهاد.

تهانينا للروائي طلال مرتضى على هذا المنجز الأدبي العظيم وأتمنى له دوام التميز والتألق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى