النهوض بالوطن ليس منع الانهيار فقط

البروفسور فريد البستاني

من المهم أن ينصرف اللبنانيون ويولوا اهتماماً لمنع الانهيار الذي يهدّد الاقتصاد والمالية العامة للدولة، إذا استمرّت سياسات التسيّب والفوضى والاستهتار بالمال العام، وسياسات الوهم بأن الاقتصاد يصحّح نفسه، أو الادعاء بأن العالم سيتكفّل بإنقاذنا في الوقت المناسب، لأنه يخشى تداعيات سقوطنا، لكن الأهم هو النجاح بتحويل هذا التحرّك الإنقاذي إلى حركة إصلاحيّة تعيد رسم دور الدولة في الاقتصاد، وتعيد تنظيم التوازن بين القطاعات، وتتولى وضع سياسة ضريبية مدروسة ذات طابع تحفيزي للاقتصاد وحمائي للطبقات الضعيفة في المجتمع، وتتمكن من وضع حجر أساس في رؤية تعرف أي وظيفة اقتصادية تريد للبنان في المنطقة.

الشعوب الكسولة والنخب الانتهازية هي التي تتخلى عن واجباتها في التعاطي مع الشأن العام إلا عندما تصل السكين إلى رقبتها وتهدّدها بالسقوط. فالشعوب والنخب تمسك بمستقبلها عبر التعامل مع حاضرها وقراءة ماضيها بروح نقدية شجاعة.

في أيام الاحتفال بالمئوية الثانية لميلاد المعلم بطرس البستاني يحضر السؤال الأهم حول مشروع وطني للنهوض، ووضع معايير هذا النهوض، وهي وفقاً لرؤية المعلم بطرس البستاني المولود قبل مئتي عام، وجود خطة لبلوغ دستور لدولة مدنية لا تزجّ بالعصبيات والطائفيات والمذهبيات في ممارسة الشأن العام، وتعليم وطني معياره المزيج المناطقي والطائفي للأساتذة والطلاب والمناهج التي تأتي بالمعارف الحديثة دون أن تضيع معها الهوية ويسقط في إبهارها التراث، واستنهاض للمرأة كعنوان لقيامة المجتمعات بشراكتها في العلم والعمل والتصدي لممارسة الشأن العام، وإعلام حر ومسؤول يقدم منبراً مفتوحاً لحوار النخب ولا ينفك يضيء على القضايا التي لا يجوز التلكؤ عن النهوض بأعبائها.

عند التدقيق بحالنا وفقاً لهذه المعايير سنجد أننا نحتاج الكثير لنستحق جدارة الانتساب إلى فكر المعلم بطرس البستاني، ولنكون في صدارة الشعوب التي تعرف طريقها وتسير على هدي ما ترسم بأيديها، ولا تستسلم لليأس فترتضي ما يراد لها ومنها، بسبب ابتعادها عن ساحات النشاط العام.

سيسهل علينا أن نكتشف أننا أضعنا أهمية التعليم كركن محوريّ في تقدم الشعوب، بعدما كنا منارة الشرق في هذا المجال. فمدارسنا اليوم في حال لا نحسد عليها بسبب تطيّفها وتمذهبها في أغلب القطاع الخاص، وتراجعها في القطاع العام، إذا ما أخذناها بقياس المدرسة الوطنية التي أسسها المعلم بطرس البستاني قبل قرن ونصف، ومكافحة الأمية لا تشكل بنداً في مشروعنا الوطني بالحجم الذي تستحقه، ومعيارها لم يعد تعليم القراءة والكتابة، بل نقل الحدّ الضروري من المعارف في استخدام اللغة والإطلاع على آدابها وتعلم الحساب واستخدام الكمبيوتر وتعلم واحدة على الأقل من اللغات الأجنبية، وتعليم المهن التقنية الحديثة والحرف التراثية، ولعله من المفيد أن نعرف أن هذا البرنامج في محو الأمية صار هو معيار التنمية في توصيفات البرامج الدولية، ويسمّى بمحو الأمية المتوسطة في برامج الأمم المتحدة للتنمية، وقد شكل اعتماده أحد أسباب تقدم دول وشعوب كماليزيا وإيرلندا، حيث قادته هيئات ومبادرات مشتركة بين البلديات والنخب الأهلية بجمعياتها ومؤسساتها، وموّلها القطاع الخاص وأصحاب المبادرات الفردية، دون أن تشكل مصدر استنزاف لخزينة الدولة.

النهضة التي تحدّث عنها المعلم بطرس البستاني ليست أمراً حكومياً، تنفذه مؤسسات وظيفية، بل تفاعل المئات والآلاف من أبناء وبنات الوطن في برامج عمل لا تبغي الربح، تعمّم الخير، وأكثر مصادر الخير وأبهاها هو العلم، ويكفي أن ينفق المتعلمون ساعة من وقتهم كل أسبوع ينقلون خلالها واحدة من معارفهم للذين يحتاجونها، ولنتخيّل في كل بلدة وحي عشرة متعلمين يتبرعون بهذه الساعة في الأسبوع، وبالمقابل تقوم بلدية أو مؤسسة أو جمعية، تسهر على تقدم بيئتها المباشرة، فتنظم الإفادة من هذا العطاء ببرامج منسقة لتعميم المعرفة، وسنكتشف خلال زمن يسير حجم النهضة التي نقود بلدنا في رحابها، وحجم الخير الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينطلق بين فئات الشعب، والروح الوطنية التعاونية التي تخيم على هذا النوع من العمل التفاعلي وانعكاساته على ثقافتنا في التعامل مع الشأن العام والهموم الوطنية. هي روح المحبّ للوطن التي كانت تشغل بال المعلم بطرس البستاني والتي نسعى لتعميمها في تكريمه وإحياء ذكراه.

نائب الشوف في مجلس النواب اللبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى