صوت الناي حنين إلى أصله

د. محمد غاني

عجباً لنبتة في الحديقة تحسب نفسها مختلفة عن سائر مكوّنات الحديقة، وتظنّ أنها غير راجعة إليها، لأنه قد سُمِح لها بكيفية ما على غير عادة إخوتها في الوجود بمسافة للتحرّك، يخاطب القانون الحق، الذي أوجد الحديقة وأبدع قواعد العيش فيها، مكوّناتها عبر رُسُل من النوع والجنس نفسهما بخطاب يأتي من علياء سموات داخلية لا يسمعه إلا من وصل إلى سدرة منتهاه الحسيّ وبقي بجوهره ومعناه المتصل بنفحة القانون الحقّ.

عجباً لعلو قانون يسري بإطلاقيته في العلو والدنو في ظاهر الأشياء وباطنها، أم كيف تسعى مكوّنات الحديقة لرؤيته بعيونها الحسيّة وهو يسري بداخلها فلولاه لما كانت ولولاه لما سمعت ولما تكلّمت، أم كيف تدّعي النبتة صلابة وقوة من غير نسبتها له، أم كيف تكتسي بمنازل ومساكن ترابية تحجب أصلها الترابي الحدائقي الذي يجمع سائرها من حيث التكوين، حتى تظن أنها مغايرة لأصلها.

أليست الفراشة غير الدودة؟ وهي عينها في الآن نفسه؟ أليس الماء الدافق الذي يلقح ذكر النبتة الانسانية أنثاها؟ فهو نفسه سائر هيكله العظمي وشحمه ولحمه الذي تتغاير تسميته عن مسميات أنسجة النباتات الأخرى تغايراً موهماً لاختلافهما عن بعضهما في أصلهما الترابي، رغم أنهما شيء واحد لخروج كليهما من الأرض ورجوعهما إليه؟

عجباً، لخيوط تربط أوراق شجرة الإنسانية لا ترى بعين مجرّدة، لكنها تُحس بالقلوب حين ترى الأم في الرؤيا أن ابنها يعيش في مشكلة وهو بعيد عنها آلاف الكيلومترات، تلك المسافات لا يبقى لها أثر مع حضور تلك الخيوط الروحيّة التي لا تُرى إلا بالقلوب.

عجباً، لنباتات تتقوّت بصلة بعضها البعض غذاء روحياً ليس له مثيل كما ترد ماء واحات التوحيد تجعل ورود أبنائها وأوليائها تزهر لتفوح منها روائح التوحيد تعبق على غيرها لتعلم أنها على طريق العودة للأصل، فتصدر منها أصوات وزفرات خشوع كما يصدر من الناي صوت شجي ينبئ عن حنينه لأصله. فهذا جلال الدين الرومي ينبّه كل لبيب قائلاً: «استمع إلى صوت الناي كيف يبث آلام الحنين يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنُّ إلى أصلي».

لرجوع النبتة إلى أصلها العلوي في علو لا متناه في علو قريب حتى أن ذلك العلو يتدلّى في باطن النبتة حتى يصير قاب قوسين أو أدنى، فتشرب النبتة من ماء ذكرها للقانون العلوي الحق فتشعر بأثر ذلك في باطنها طمأنينة وسكينة شراباً منها إليها، فيترآى محبوبها من طلعتها هي عينها.

ها هو أحمد الحراق يعبّر عن معنى عاشته نبتته الداخلية في بحثها عن أصلها قائلاً:

«وَلَمّا أَزَل مُستَطلِعاً شَمسَ وَجهِها

إِلى أَن تَراءَت مِن مَطالِعِ صورَتي».

كاتب، المغرب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى