ركيزتان مفقودتان في سياسة الدولة المالية

ناصر قنديل

– في كل دول العالم بما فيها الدول العظمى والدول الغنية والمتفوقة اقتصادياً كما في الدول النامية والفقيرة والضعيفة، تقوم السياسة المالية للدولة على ركيزتين، تشكلان أساس تدخل الدولة في هيكلة الاقتصاد وتنظيم الاستقرار الاجتماعي. والركيزتان هما السياسة الجمركية من جهة، وضريبة الدخل من جهة أخرى. فالسياسة الجمركية تحدد هوية الاقتصاد، حيث تخفض الدول المعتمدة على تجارة الوافدين إليها الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة، وتستغني عن قيام صناعة وزراعة وتستوعب الطاقة العاملة في ميادين التجارة والخدمات الملحقة بها كالسياحة والمصارف وسواها، بينما تتجه الدول التي تريد تطوير صناعتها وتشجيع زراعتها رفع الرسوم الجمركية على المستوردات، وتسمّى بالحمائية الجمركية، وتضاعف من رفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة التي تنافس الإنتاج المحلي أو التي تقطع الطريق على قيام صناعات وزراعات محلية منافسة. وفي عائد الحركة الاقتصادية تضع الدولة سياستها الضريبية لضمان الاستقرار الاجتماعي، بحيث تقتطع من المداخيل الصافية للأفراد والشركات نسباً مئوية تقررها وفقاً لمنهجيتها الاجتماعية فتعتمد الضريبة التصاعدية على الدخل لبناء عدالة اجتماعية، أو تخفض الضرائب على الدخل إذا أرادت الاعتماد على جذب الأموال للاستثمار وتمنحها حوافز ضريبية، وفي هذه الحالة تتولى الدولة تقديم خدمات تعويضية للطبقات الضعيفة مجاناً أو بأسعار رمزية في مجالات الصحة والتعليم والسكن لضمان استقرار النظام الاجتماعي.

– مداخيل الدولة وكيفية تأمينها لا يمكن أن تتحكم بوضع الموازنة، التي يجب أن ترسمها الدولة بين حدّين قامت باختيارهما منهجياً لهويتها، هما سياستها الجمركية وسياستها الضريبية. وفي كل دول الغرب يتم تطبيق سياسة حمائية جمركية للإنتاج المحلي وضريبة تصاعدية على الدخل لتأمين الاستقرار الاجتماعي وتمويل الخدمات العامة للطبقات الضعيفة. والرئيس الفرنسي امانويل ماركون اضطر للتراجع عندما قام بمناورة لتعديل النظام الفرنسي بسياساته الجمركية والضريبية، وواجهته انتفاضة السترات الصفراء التي لم تنته فصولها بعد، بينما لا يتردّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي حقق نجاحاً اقتصادياً لافتاً، عن فرض الرسوم الجمركية على المستوردات المنافسة للإنتاج المحلي، فيما اختار منح حوافز ضريبية للرساميل الأميركية المهاجرة أملاً باستعادتها، خصوصاً من الصين أما في لبنان فيدور البحث في الموازنة خارج سياق سياسة جمركية وسياسة ضريبية. فالاقتصاد اللبناني حائر بين أن يكون جنة ضريبية وأن يكون سوقاً تجارية مفتوحة متشبهاً بدبي وهونغ كونغ واللوكسمبورغ، وبين أن يكون اقتصاداً منتجاً يملك قدرة تأمين فرص عمل للأيدي العاملة، ويوفر قدراً من التصحيح لميزان تجاري تشكل فيه الصادرات 10 فقط من المستوردات، ما يتسبب بخلل فادح في ميزان المدفوعات، ويجعل التوازن النقدي مربوطاً بأسعار عالية للفائدة تشجيعاً للاستثمار في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، وتجفيفاً للسيولة التضخميّة، فيقطع بذلك الطريق على التسليفات الاستثمارية للمصارف لأن عائد الربح الاستثماري عاجز عن منافسة سعر الفائدة. وهكذا يتسبب الضياع بموازنة مرقعة، مهمتها تخفيض نفقات وزيادة واردات بالمرور بين ثقوب تتفادى أي مواجهة، مع طرفي المعادلة الاقتصادية، ذوي الدخل المحدود، وأصحاب الأموال، فتقع باستغضابهما معاً.

– يكفي القول إن لبنان لا يصلح ليكون دبي أو لوكسمبورغ أو هونغ كونغ، فهو أقرب لمثال سويسرا، بمصارفه وصناعاته الحرفية وزراعاته الانتقائية وسياحته المنتقاة. وهذا يعني على سبيل المثال أن سياسة جمركية تحمي صناعة التبغ والمشروبات الكحولية والغازية والأجبان والألبان وسائر الصناعات الغذائية، وصناعة الملابس والأزياء والمجوهرات، وهي مجالات يبرع فيها لبنان، وفرض ضريبة جمركية بنسب عالية على استيرادها تقارب الـ 100 ، ستتكفل بتخفيض المستوردات 10 على الأقل وفقاً للتقديرات، أي ما يعادل ملياري دولار، وتحقيق دخل لخزينة الدولة يعادل مليار دولار وإيجاد عشرات آلاف فرص العمل. وبالمقابل فإن فرض ضريبة تصاعدية على شرائح الدخل للأفراد والشركات، تبدأ من كل دخل يزيد على خمسين مليون ليرة سنوياً بنسبة لا تزيد عن 10 وتطال الشريحة ما بين خمسين ومئتي مليون ليرة بـ 20 ، وما بين 200 مليون ومليار ليرة سنوياً بـ 30 وبين مليار و10 مليارات بـ 40 وبين 10 مليارات و100 مليار بـ 50 ، يعني الاستغناء عن كل بنود التدخل في الرواتب والتعويضات في الموازنة لأن الاقتطاعات ستتحقق من خلال ضريبة الدخل التي ستطال رواتب القطاع العام والقطاع الخاص معاً، وكذلك تعني الاستغناء عن الضريبة على الفوئد المصرفية لشمول أصحابها بضريبة الدخل بما هو أهم، وتقدير العائد الإجمالي لهذه السياسة الضريبية لا يقلّ عن ملياري دولار سنوياً.

– لبنان بلا سياسة جمركية ولا سياسة ضريبية، يبحث عن موازنة ضائعة في التسويات الصعبة والمعادلات الترقيعية التي ستنتج اقتصاداً هجيناً عاجزاً، ويكفي للدلالة على ذلك أن المفاوض على القروض في سيدر، لم ينتبه أن ما تنفقه الدولة في البنى التحتية يحرّك عجلة السوق بصورة اصطناعية ومؤقتة بينما، لو كانت القروض التي تكفلها الدولة وبأسعار مخفضة ومهل طويلة مخصصة لقروض يُعاد تدويرها بواسطة القطاع المصرفي للقطاع الخاص في الاستثمارات التجارية والصناعية والعقارية والسياحية والصحية والتربوية والزراعية، لكانت مفاعيلها الطبيعية رفعاً لعائدات الدولة عبر ضريبة الدخل، وزيادة لفرص العمل وانتعاشاً للاقتصاد.

– النقاش لوضع سياسة اقتصادية للدولة يسبق نقاش الموازنة، وإلا فنحن كمن يضع العربة أمام الحصان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى