في حضرة «أبو الهول»

د. عدنان منصور

أبا الهول…

يا آية الزمان وأيقونة الدهرِ…

يا رابضاً مع بزوغ الفجرِ..

جئتك لأقف بين يديك..

يا مرابطاً من عصر إلى عصرِ،

أمتثل أمامك لأستمع إليك…

يا شاهداً على سجلّ السنين،

حضرتك لأرى الصور في عينيك…

تروي حكايات سيرتنا..

تحكي قصص مسيرتنا..

لِمَ لا، وأنت للتاريخ مرآة وذكرى..

لَمَ لا، وأنت للزمان أنشودة وعبرة..

أبا الهول..

أرى صور عينيك ترسم من حولك

مأساة الحاضرِ..

«وتذرف الدمعة على الزمن الغابرِ…

وأسمع في البيداء صوتك الحزين،

يغصّ، يخجل من مهزلة الأيامْ…

تبكي المشرق والمغرب، ويجف في حلقك الكلامْ

تبحث عن الفارس، والشهامة، في زمن الأقزامْ

وتتساءل: أين هم الرجال وسادة الأنام…؟!!

كنتَ حارساً للأرض،

وأصبح أحفادك مطيةً للاحتلال…

كنتَ رمزاً للقوة، للعظمة،

وصارت الأوطان من بعدك بؤرة انحلال

أبا الهول..

أنت الشاهد والمدوّن،

فاقصص علينا الحكايات…

حكايات الملوك والسلاطين والحريم والغلمانِ…

واروِ لنا قصة أمةٍ وما فيها،

من سيرة أراذل العربانِ…

وفجورِ الأعيان، وإمارة الصبيان، وتدبير الخصيان..

قم أبا الهول وانفض عنك غبار السنين، وقل لهم:

في أمتي ضجة وهرج ومرج وصخبُ…

جيوش ونمارق ونار وبارود وحطبُ…

قتل وسبي وذبح وحربُ..

أبو جهل عاد ثانية ويهوذا ومسيلمة وأبو لهبُ

وحفنة من خوارج الزمان،

قيل عنهم إنهم عربُ…

همهم الكأس والغلمان،

والهز والرقص والطربُ..

كل الثعابين من جحرها خرجت..

كل الخناجر فيها تناغمتْ..

كل السيوف فيها تعانقتْ..

بأشكال وألوانِ..

فكل شيء دبّر بإسفين صهيوني

وقرار أمريكي وتواطؤ عرباني..

فالأمر مفضوح لا يخضع لجدل أو نكران…

لا فرق اليوم بين صاحٍ وسكران..

بين قاتل متوحش صهيوني،

ومظلوم مكبّل وراء القضبانِ..

بين سيد حرّ، وطاغية سجّانِ..

بين ساعٍ للقمة عيش،

ولص وارث لسلطانِ..

قل لهم أبا الهول..

إن أمة بحثت عن كرامة وهوية،

لم تجد إلا حفنة مارقة استأثرت بالقرار،

والمقدرات والبندقية..

اقتسمت المناصب، اغتالت المكارمَ،

وارتضت بالخزي والتبعية

نعتت الوطني المقاوم بالعمالة،

وظرّفت الفاجر بائع القضية..

أمة حكمتها سلالات مشبعة بالخيانة،

باعت الأوطان بمناصب، وتاجرت بالديانة..

بقايا حكام تمادوا في فجورهم،

سيرة كل منهم بَصَمَتْها بنانه…

قل لهم أبا الهول:

بين اللحى والعمائم،

والمذاهب والطوائف..

والثياب المرقّطة، والجيوش النظامية…

بين الرفاق والأشقاء،

والأعداء والأصدقاء،

والمبادئ والنفاق،

والنضال والحركات الثورية…

بين الخوف والغبن،

والحرمان وأكلة الجبن،

وأثرياء الحرب من كل لون،

ضاعت أمتي كلها، وضاعت معها القضية…

قل لهم أبا الهول:

على أرضنا حُشرت العقائد والشعارات..

وكثرت البيانات والتصريحات..

وتزاحمت فيها الوفود والمؤتمرات…

وتوالت الاجتماعات والوساطات..

وفي ديارنا ساح الرسل والمبعوثون..

الموفدون والمراقبون..

الطارئون والوافدون…

المهرولون والمطبّعون…

قل لهم أبا الهول:

لم نترك جنسية تعتب علينا إلا وجلبنا…

لم نترك قوة دولية إلا وبها احتمينا…

لم نترك منظمة دخيلة إلا وآوينا…

لم نترك جماعة غريبة إلا وآخينا…

لم نترك نظاماً إلا ووراءه مشينا…

لم نترك زعيماً مات في أقصى الدنيا إلا وبكينا…

لم نترك فلسفة أو عقيدة أو حزباً إلا وتبنينا…

لم نترك خطبة أو موعظة أو محاضرة إلا وألقينا…

قل لهم أبا الهول:

في السنين والقرون العجاف،

اعتنقنا كل الأفكار والنظريات..

وسلخنا عن الأمة الواحدة دويلات..

وحملنا فيها السيوف والبنادق وكل الرايات..

الحمراء، والخضراء، والسوداء، والبيضاء، والصفراء والزرقاء،

ورفعنا فيها كل الشعارات والصور واليافطات،

ولوّحنا بأيدينا بالخناجر والسيوف..

بالمطارق والنجوم،

بالمناجل والنسور،

بالهلال والساطور،

بالصليب والصقور،

بالقلم والدستور..

قل لهم أبا الهول:

في السنوات والعقود العجاف…

دخلتْ في الجيوب كل العملات…

واشتُريت الزعاماتُ بالمكرمات،

وبيعت الأوطانُ بالصفقات،

واستُعبد حكامٌ بالصدقات…

فرنكاً وجنيهاً ودولار

يورو وريال ودينار

ذهب وفضة بالقنطار…

قل لهم:

لم نترك زياً إلا ولبسنا:

كوفيةً وعقالاً وطنطور

عباءة وحريراً وشادور

«فراك» و«سموكنغ» و«بونجور»..

قل لهم أبا الهول:

في أمتي وُزِّرَ الأب والابن والصهر والشقيق والحفيد

والحكم ثُبـِّتَ داخل الأسرة الفاسدة،

منها يُستمد القانون والنعمة والحكم الرشيد..

بالروح، بالدم، هتفنا للطاغية والزعيم،

ورضينا أن نكون عنده في حاشية العبيد…

أبا الهول:

من حقك أن تغضب منا وتثور علينا..

فنحن قوم لم نصُن العهد ولا الإرث،

ولم نفقه الذي جنيته من الذي جنينا..

لنا من بعدك فتات الماضي نقتات به،

وأبينا أن نبني مستقبلاً زاهياً نغرف منه..

لأننا قوم لا نعرف من بعدك إلا أسوار القصور..

وجواري الملوك وروائح العطور وسلاطين الفجور…

أمة ابـتُـليت بسلالات حكام، صمتهم كصمت القبور…

يُؤمَرون فيُطيعون…

يُذلون ويخضعون..

يُحتَجزون وينكرون..

يُداسون ويشكرون..

يُصفَعون ويرضون..

يُبتزون ويدفعون..

قل لهم أبا الهول:

أعراب أمتي ما عرفوا يوماً نخوة قوم الجاهليّة…

في حفظ الديار والشهامة والمروءة والحميّة..

جاهليون لكن، لم يفرطوا يوماً ببني جلدتهم،

وإن حاصرتهم المنية…

وأعرابنا سلخوا أبناء جلدتهم وباعوا الأوطان..

وتاجروا بالقضية…

ما صدقوا يوماً وإن فعلوا، كانوا لأسيادهم

وأعدائهم مطيّة…

فلا عجبَ، وفي حضن ولي نعمتهم

ولدوا وترعرعوا وكبروا…

كل واحد منهم دمية رخيصة لها سعرُ..

ينوخ ويُذَلّ وينفّذ ما يؤمرُ..

بصيرتهم العمياء جعلت شقيقهم عدواً..

وعدوهم شقيقاً وحليفاً، به فتنوا وسحروا..

بئس حكام وأعراب لم يتركوا وراءهم،

إلا عارهم وخزيهم يتصدّر جباههم،

وعليها يحفرُ..

ستبصق عليهم الأجيال بقرف،

كلما أتت على سيرتهم وذكروا…

تصبّ عليهم اللعنة أينما حلّوا

ومتى قبروا..

قل لهم أبا الهول كيف أنه:

في أمتي بغت وطغت واستبدّت عروش…

وعلى موائد اللئام انتفخت كروش..

وفي أرضها حكم فجّار وتجّار أوطان ووحوش..

سرقوا الأمل والنعمة من أفواه الجائعين..

وتركوا لهم الخيم والبكاء والنعوش..

أبا الهول:

نحن قوم جئنا من بعدك،

لم نكن إلا رد فعل للآخرين..

وأرضنا جعلناها مستباحة للطامعين..

وسخّرنا حواضرنا وقُرانا لتكون محطة استراحة للعابرين…

نتباهى بآثار الغزاة وننسى،

أنها وصمة عار في الجبين..

ظرّفنا المحتل، وصفّقنا للغازي،

وأطلقنا على شوارعنا،

أسماء لصوصِ الأوطان والقتلة والمحتلين..

وغدونا من احتلال إلى احتلال،

نعيش مع الطغيان أياماً وسنين..

أبا الهول:

أرى صور عينك تتمايل مشرقاً ومغربا،

شمالاً وجنوباً، وقلبك يعتصره الأنين..

تريد العودة لماضيك الباهر،

يجذبك إليه العنفوان ويشدك الحنين..

أراك تذرف الدمعة على حاضرنا التعيس،

وأسمع عن قرب، صوتك الخافت الحزين..

يتمتم ويقول:

تباً لملوك وحكام وسلاطين ذل.

جاؤوا من بعدي،

دوّنوا تاريخهم في أحضان المحتلين..

وزير خارجية سابق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى