شعر الومضة وتأصيل النّوع

د. باسل بديع الزين

يأخذ بعض النقّاد على الأدب الوجيز إطلاقه سلسلة مقالات نقديّة، وتقديمه مجموعة كبيرة من نصوص شعر الومضة، من دون الرّكون إلى تعريفات نهائيّة أو تسويغات نظرية مكتملة البناء.

حقيقة الأمر، أنّ كلمة تأصيل ترتبط معجميًّا بالشيء والنّسب. فتأصيل الشيء: جعله ذا أصل ثابت، وتأصيل النّسب: تبيان أصله وأصالته. أمّا علم تأصيل الكلمات فهو البحث في تاريخ الصيغ اللغويّة من أوّل نشأتها. لكن ماذا عن تأصيل النّوع الأدبيّ؟ هل يجري بصورة لاحقة للنتاج الأدبي، أي يجري استنباط خصائصه ومفاهيمه ومحدّداته ومرتكزاته انطلاقًا من جملة نصوص خرجت على المألوف وكسرت القوالب التقليديّة أم أنّ العمل الأدبيّ هو نتاج تصوّرات مفهوميّة واضحة وجليّة ينطلق الشّاعر أو الأديب منها في محاولة رصد تجارب جديدة مستلهمًا أشكالًا تعبيريّة غير مطروقة منفتحًا على آفاق قول جديد بالتّمام؟ الواقع أنّ كلا الاتجاهين يسفحان العمل الإبداعي إذ يؤطّرانه ضمن أطر بليدة ويسوّرانه في حدود تعريفات نهائيّة وتخوم عملانيّة تأتي على العمل الإبداعي وتقوّض مداميكه التّخييليّة والفنيّة والتّجريديّة والعقليّة.

مع ذلك، ينبغي ألا تفهم حركة الأدب الوجيز بعامّة، وشعر الومضة بخاصّة، على أنّها حركة متحرّرة من كلّ أشكال التنظيم وسبل التأطير وأهداف التأصيل. بتعبير أوضح، ينطلق الأدب الوجيز من فكرة مفادها ضرورة التساوق والتزامن بين حركة التنظير وفعل الكتابة، بحيث تؤسّس هذه لذاك، ويؤسّس ذاك لتلك، الأمر الذي وجد فيه أنصار الثقافة السائدة خروجًا على طبائع النظر والتدبّر الأدبيين. بيد أنّ التّساوق إذا ما فهم في إطاره الحقيقيّ وفي سياقه التجاوزي التجديدي، فإنّه كفيل بفتح نافذة القول على طفرة نوعية في تأصيل النوع، طفرة نوعية تنطلق من داخله، بحيث يغدو منتج النص هو المنظّر له وناقده ودارسه.

وبشيء من التفصيل نقول: إنّ الشاعر الكبير هو الناقد الكبير لنتاجه قبل نقده نتاجات الآخرين. وتأصيل شعر الومضة كنوع أدبي جديد بامتياز يحتاج بعدًا مغايرًا في النظر إلى طبائع الأمور. بهذا المعنى، يأتي الفعل التجاوزي لما هو سائد فعلًا ثوريًا يزاوج بين التنظير والممارسة، بعيدًا من النمذجة والتأطير القبليين، وبعيدًا من الأحكام المسبقة والتصوّرات المنجزة.

وعليه، عندما ندّعي أننا في طور تشييد نمط أدبي جديد بالتمام، لا نغفل حجم الاتهامات التي يُمكن أن يُكيلها الأغيار لنا، لا بل نتعمّد إثارتها في ضرب من التشديد على تساوق النظر والعمل من جهة، وإبقاء هذا النوع من النسق الكتابي مفتوحًا من جهة أخرى، ذلك أنّ التسوّر في داخل حدود منجزة ونهائيّة من شأنه أن يأتي على طرافة الطرح على غرار ما حصل في سائر الأجناس الأدبيّة.

في هذا السياق، يرى نقاد كثيرون أنّ الأدب الوجيز قد انشغل بالشكل على حساب المضمون، وذلك لعمرنا خطأ جسيم في فهم مندرجات طرحنا. لقد دعا الأدب الوجيز، منذ البداية، إلى الخروج على المضامين السائدة ذات البعد الاجتراري الاستنساخي، وعمل جاهدًا على تكريس مضامين جديدة تكمن في العودة من اللطافة إلى الكثافة، وفتح باب الرؤيا البناءة ورصد مشهديات فكرية تصورية متناسقة ذات أبعاد افتضاضية مسكونية إنسية واجتماعيّة. وقد أمكن لمنظريه أن يرصدوا خللًا بيّنًا في الأشكال التقليدية خلصوا معها إلى أنّ الأشكال التقليدية لا يمكن أن تستمر في إرخاء ظلالها على الأبعاد المضمونية الجديدة وإلا فقد العمل الأدبي المنشود هدفه ومبتغاه.

من هذا المنطلق، جرى البحث عن شكل تعبيري جديد، فكان شعر الومضة. بتعبير أوضح، يأتي الحشد اللفظي المكثّف والإطار التعبيري المضغوط ليمنحا الكلمة أكبر قدر ممكن من الأبعاد الرؤيويّة بأقلّ قدر من الألفاظ المستخدمة. نحن هنا أمام طاقة متفرّدة للمفردة، أمام فضاءات إيقاع جديد، فجر لغة مبتكرة، مندرجات قول لم يقل واستشرافات ندّعي أنّها غير مسبوقة.

إنّ تأصيل النوع، ونعني تحديدًا شعر الومضة، تأصيل مطلوب وقائم، يحمل أبعادًا فكرية ومنطلقات مفهومية وأسسًا تنظيرية وأنساقًا محكمة ترتبط جميعها بتطبيقات عمليّة أصيلة ونماذج مبتكرة. بيد أنّ هذا التأصيل يبقى أمينًا لمندرجاته الفكرية فلا يتسوّر ضمن حدود مطلقة ولا يدّعي امتلاك الأشكال النهائية للقول.

يبقى أن نشير إلى أنّ الأسس المفهومية والتنظيرية، التي عرضنا لقسم كبير منها على امتداد مقالات كثيرة نشرت في هذه الجريدة البنّاءة، هي أسس تخضع على الدوام للنقد والتمحيص والتبديل والتعديل. ولهذه الغاية، عمدنا وسنعمد إلى عقد جلسات دورية لمناقشة المنطلقات الفكرية للأدب الوجيز فضلًا عن مناقشة بنيانه المفهومي وتصوراته النظرية مع مجموعة من الأكاديميين والنقاد الذين طارت شهرتهم وعظم شأنهم، قبل أن ننجز عملين متساوقين ونعني: نشر كتاب يعرّف بماهية الأدب الوجيز ويعمد إلى تأصيل نوعيه: شعر الومضة والقصة القصيرة جدًا، وذلك بالتزامن مع إصدار مجموعة شعرية تنطوي على عدد كبير من نصوص شعر الومضة فضلًا عن مجموعات قصصية، أي قصص قصيرة جدًا.

بوجيز العبارة، لا نغالي إذا قلنا: إنّ الأدب الوجيز بات يشكّل حالة أدبية ومظهرًا فكريًا له أسسه ومنطلقاته بعيدًا من لغة المنابر وشاعرية التجييش والرصف البليد للكلمات.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى