مرويّة «كفر نعمة» والعلاقة الأزليّة بين التأريخ والحكائية

مجدولين الجرماني

تلك العلاقة الأزليّة بين الفنّ والتاريخ التي تناولها عزت بيغوفيتش الناشط السياسي البوسني والفيلسوف الإسلامي باستفاضة في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»، أو عبّر عنها الشعر كأداة تأريخ لحياة الإنسان والمجتمع، لا زالت تعبّر عن نفسها من خلال تمظهر الرواية التي تتفاعل مع الواقع والتاريخ «عبر التماثل بين الذاتي والموضوعي» في تبيان الفرق بين الذاتي والموضوعي يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري إن الذات هي جوهر الشيء وشخصيته التي تُعبّر عمّا به من شعور وتفكير، بينما الموضوع هو الشيء المُستقلّ عن الإرادة والوعي الإنساني، أو هو كل ما يُدرك بالحسّ في العالم الخارجي .

وهكذا كاتبنا المميّز داود أبوشقرا… كما يقول صُنع الله إبراهيم روائي مصري يساري رفض جائزة الرواية العربية «المؤرخ الجيد هو الروائي».

وهنا يطلّ علينا الروائي المؤرخ داود أبو شقرة من روايته «كفر نعمة» في ص. 24:

غرباء مصر لكنهم مميزون ومحظوظون وينالون الحظوة لدى السلطة العثمانية والمملوكية والفرنجية الصليبية والفرنسية والانكليزية المحتلة لمصر المحروسة.. حتى عندما جاءت ثورة عبد الناصر ثورة تموز عام 1952 التي قام بها الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر الى النهاية، حيث تكلم عما حدث تماماً في هذه الحقب التاريخية المتتالية من خلال شخوص وأدلى بدلوه كراوٍ ومؤرخ ووضع بصمته الخاصة وفكره.. ثم ذكر لنا جملة نابليون بونابرت في ص 25… وجان باتيست كليبر قائد الحملة الفرنسية وقتله على يد الشاب السوري سليمان الحلبي.

كلّ هذه الأحداث وقائع موثّقة وحقيقية أضفى عليها الطابع الروائي السلس المستحبّ لدى القارئ الذي يشدّه عنوةً لفتنة الرواية ليوصلنا من خلال التصاهر الذي حدث… للدكتور المزيّف متولي عبده وتاجر الخردة النحاس عبد المعطي والأستاذ علي أبو الليل .

ص 3، حين حدثنا عن إحداثيات شخص عبد المعطي في الرواية و من أين جاء وأصوله وإسقاط حرب اكتوبر 1973، وتداعياتها على هذه المنظومات الصغيرة بتحصيل الثروة المحدثة من سرقة نصف طن من النحاس.

لكن ثمّة تفصيلاً آخر في المسألة يفصّل الرواية التاريخية «كفر نعمة» كعمل فنّي لا ينقل السرد التاريخي الصلب، وإنما ينقل تصوّر الأديب له من خلال احتوائه للتاريخ وتفاعله معه بتشكيل فني «مُستمدّ من مادته الأدبية التي صوّرها في بنائه القصصي» 4 ، لأغراضٍ أعمق من مجرّد السرد، فهي لا تقتصر على كونها لونًا أدبيًا غرضه الحكاية، وإنما هي محور هام في تدوين التاريخ وحفظ تفاصيله الجزئية التي يغفلها التأريخ كعلمٍ موضوعيٍ حديث.

ص 189، تلك الفلاة التي عبرها الهكسوس الملوك السوريون الرعاة ووحّدوا سورية ومصر.

ويتابع الكاتب مرويّته ويصف الوضع في حرب أكتوبر «قصفت الطائرات كل شيء في الهواء بما فيها أبراج الكهرباء، أعمدة الهاتف، أبراج البث الإذاعي والتلفزيوني، توقف صوت أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب بعد دقائق عاد البث من جديد

إذاعة مصر من دمشق…».

هنا تظهر عاطفة الكاتب القومية جليّة، هنا يظهر الإنسان العربي دون حدود الجغرافيا مع إسقاط تاريخي للأحداث.

ونرى في هذه الرواية كيف يتمّ التفاعل الأدبي مع التاريخ في سعيٍ حثيث لتناول التاريخ بشكل أُفقي خارج نطاق الحكّام وشخصيات الصفّ الأول تارةً، أو لاستحضار الحالة الماضويّة في الزمن المُعاصر للرواية من أجل الإسقاط أو التحذير أو التعبير في تارةٍ أخرى.

ص 195، بيان عسكري أعلن أن الخيانة هي التي أدّت إلى تحطّم قوى مصر الجوية، الرادارات والطائرات المصرية في مطاراتها عند الفجر، وأن الخيانة كانت على أعلى المستويات، أنباء عن نوم الضباط في العسل والخدر اللذيد في حضن لذيذ، وعلى رأسهم قائد الجيش.

وصلت إشارات عدّة من الجواسيس العرب داخل «إسرائيل»، إشارات أرسلها من تل أبيب رجل الاستخبارات المصري رفعت الجمال .

في النهاية فإن التاريخ والرواية قد تفاعلا مع ثنائية الذاتي والموضوعي على طريقتهما الخاصة بما يستحق شيئًا من التأمّل والتفصيل. التآلف بين موت أبي مجد المصري والمؤامرة واستمرار حربي بالدور نفسه، وأخيراً تنقله في مصر ببسبور مزوّر. هنا الحالة الفلسفية تتسم بوضوح لدى الكاتب بما يعنيه بأننا أبناء الوطن لا نملك أحقية الاسم الحقيقي حتى وقد نضطر أن نكون مزيفين ونحن لسنا بنحن واعتبار الأجنبي له الأفضلية، فدائماً نعلم أن الجواز المزوّر للخارج، لكنه بات مهماً للداخل كي لا تكون مكشوفاً لدى السلطة ومحدثي النعمة جدليّة عميقة جداً ذهبت لكثير من الزوايا المعتمة في العالم العربي ككل .

وفقًا لقاسم عبده قاسم الحائز على ليسانس آداب قسم التاريخ ودكتوراه في الفلسفة في العصور الوسطى وماجستير في العصور الوسطى، تتكوّن رواية داود أبو شقرا من البناء الثلاثي «الإنسان، والزمان، والمكان»، ولكن باختلاف طريقة التناول وزاوية الطرح. فعلى الرغم من التقارب الظاهر نوعًا ما بين تعامل الروائي والمؤرّخ مع بُعدَي الزمان والمكان في حال التأريخ أو الرواية، والتقيّد الزماني والمكاني بواقع الحادثة الأصلية، فإن الفارق الجوهري يظهر بينهما في تعامل كل منهما مع المحور الإنساني.

ص 256، مقتلُ الحلاّب لم يغير شيئاً بقي العمدة عمدة، قتلُ فرد لا يحلّ مشكلة كبرى ولا صغرى، لم تمُت آلية الفساد، حكم على نفسه بالمنافي، غريباً مطارداً، خسر اسمه الحقيقي.

النجاح الحقيقي هو أن يتحوّل كل مظلوم إلى حربي ويتوحّد الحربيون جميعاً ويقول كل منهم هذه حربي عنذئذ ينهار الظلم بأكمله وبسرعة.. هكذا نرى الراوي المؤرخ داود أبو شقرة يقول في صوت جهوري واضح من خلال مرويّته «كفر نعمة».

في مرويته «كفر نعمة» الصادرة عن «دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع»، يأخذنا الكاتب داود أبو شقرة، منذ المطلع الأول، في دوّامة لا مدى لها، ليوصلنا إلى قناعة وحيدة، بأننا لسنا إلا امتداداً معبأ وراثياً وفكرياً بكل جينات تلك الآلهة.

فالشخصيات التي ابتدعها، خليط من خير وشرّ، وكأني به يقول لي: «سلمي.. فتلك هي تركيبة الكون، فأدهم الشرقاوي استطاع كسر الخوف والتغلب عليه، لكنه سقط صريعاً في المكيدة، ومثله مدبولي الذي عاش حياة الهزل والسخرية ليعبر نحو دروب الضوء».

الكاتب حاول جاهداً رسم خطوط رفيعة رابطة بين مصر وبلاد الشام، فعندما أخذ من مكان «كفر نعمة»» مسرحاً لمرويته، نقل قصص الوجع الواحد بين الموطئين، مصر وبلاد الشام، وليس خفياً على أحد، حين يكون الحديث عن هاتين البقعتين على الأرض، لا بد للّغة أن تسمو وتصير ندية، كما حدث مع داود أبو شقرة. فتارة نجده يرسمها رسماً وفي أخرى يمرّرها وصفاً، وفي لحظة ما يغنّيها بلسان الجميع. وهنا يراودني السؤال: هل يا ترى كان الكاتب يدور في دائرة العالم الكونيّة ليخبرنا بأن كل الشعوب، توالدت من بعضها، ولكنها لم تستطع التخلّص من إرث النزعات التي توارثتها من آلهتها الأولى؟

لعلّ القارئ في المطالع يرتبك وهو يحاول التقرّب بعمق من الشخوص، لكن الكاتب كان يفوّت الفرصة من خلال نقلاته السريعة وضخّ أحداث تجعل من رأس القارئ منشغلة بالأسئلة المشروعة، كالبحث عن القفلات!

فالأنثى في مرويّة أبو شقرة، كانت ممتلئة ومكتملة بجمالها وإغرائها وغنجها، ولكنه لم يتوانَ من تركها لتكون فاكهة المروية، التي يودّ الجميع قضمها! أليس هذا سلوكاً متوارثاً، بحيث تنكسر الصورة أعلاه، صورة الجمال، والغنج، وأمام العقلية المحكومة بأن هذه الأنوثة كلها، محكومة برداء سمل يُسمّى «البكارى»؟

احتدام الأحداث ساعد كثيراً في تطوير الشخصيات ونموّها بفاعلية لغة الكاتب التي ذهبت عميقاً نحو الماضي العتيد وأمسكت من باب تالٍ بزمام الركب الحديث. على أرض المروية بقيت الأرض هي الأرض منذ عصر الفراعنة إلى تلك اللحظة، زمن الطوفان قائم.

فالتمازج والتداخل بين الحلم والواقع الحال، بين مرارة الماضي ومؤامراته وظلم الحاضر واستمرار خيانته، جسّده الكاتب من خلال حركة الشخصيات وخاصياتها، فلم يوارب كيف صار عبدو المتولي بين عشية وضحاها غنياً، لم ينبّه الفقير الذي يمشي على هداه مثل سمكة تدخل شبكة الصياد بإرادتها. وشيخ الجامع لم يكن في لحظة إلا مداً مستمرّاً للمفرز السائد اليوم، وكذلك تناقضات العمدة، الجبروت والعجز إلخ. المروية من خلال محاكاتها ومحاورتها مع الأساطير البائدة، تستجرّ قارئها ومتخيّله نحو أماكن بعيدة للتفكّر بكل المتناقضات التي طرحتها، والذهاب نحو الأسئلة الوجودية عن ماهية التواريخ والاعتقادات التي رسّخت مفاهيم العبودية، العذرية، الظلم وصولاً إلى القرابين التي توهب لتستمرّ كل تلك الفوضى التي اشتغل عليها الكاتب في مسرح الورق. خلط متعمّد لكل شيء، فقط للحصول على قفلة تؤكّد أنّ الخاسر وحده في كل هذه المعمعة هو أنا أنا الإنسان لأنني حلقة الحياة الأضعف. داود أبو شقرة، ترك علامة فارقة، حين جعل من «كفر نعمة» تلك البقعة، نقطة ارتكاز الأرض.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى