الاستثمار والغنى

فادي عبّود

أودّ أن أستكمل المناقشة الاقتصادية الذي كنا أطلقناها منذ فترة لحضّ الرأي العام على التفكير الاقتصادي المجدي والعلمي، ووضع الإصبع على الجروح الحقيقية التي تعوق تقدمنا الاقتصادي وتجعلنا نتصارع على موارد محدودة لا تُشبع من جوع. لكني فوجئت بأنّ هذه المناقشة لا تثير أحداً من القراء، خاصة قراء جريدة «البناء»، كأنّ الجميع اليوم أحجم عن التفكير اقتصادياً، وآثر الاختباء وراء أفكار معلّبة لوصف الحالة التي بلغناها. فليس صحيحاً أنّ إحجام المسؤولين عن منح السلسلة هو كيدية وتعاط فوقيّ وطبقيّ مع أصحاب حقوق. المشكلة أبعد من ذلك. المشكلة أننا أوصلنا اقتصادنا الى درجة صفر نموّ، فالمسؤولين اليوم غير قادرين على منح ما لا يملكون، إذ عرّي الاقتصاد اللبناني من فرص الإنتاج الجديدة كافة، فتحوّلنا كمن يأكل من لحمه الحيّ لإبقاء الحدّ الأدنى من مقوّمات الدولة.

لا أريد إلغاء واقعة الهدر والفساد، وكتبت الكثير والكثير في هذا السياق وأثره في مقدرات الدول. بيد أننا نواجه اليوم واقعاً أشدّ إيلاماً في لبنان هو غياب البيئة الاستثمارية والاستثمارات المباشرة التي تخلق فرص عمل وتُدخل موارد الى خزينة الدولة. البلد في حاجة الى ما بين 30 إلى 40 ألف فرصة عمل سنوياً لا نخلق منها شيئاً يُذكر.

ألم نسأل أنفسنا لماذا لا يزال لبنان عاجزاً عن استقطاب استثمارات كبيرة وفاعلة؟ ولماذا يفضل أصحاب الأموال إبقاء أموالهم داخل المصارف بدلاً من الانطلاق بمشاريع واعدة تضاعف الأموال عبر تحقيق الأرباح؟

مما لا شك فيه أنّ الاستثمارات المباشرة قادرة على تحقيق التنمية وزيادة عملية الإنتاج، باعتراف جميع المدارس الاقتصادية، وزيادة الاستثمار هو تعميم للغنى، فيما انعدامه هو تعميم للفقر.

إنّ تدهور البنية التحتية في لبنان، وتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني، هي يدلاّن على وجود عائق أساسي وبنيوي أمام الاستثمارات الأجنبية. بالإضافة الى عدم تطبيق الإصلاحات التي تؤدّي الى تحسين المناخ الاستثماري وتطوير بيئة الأعمال ورفع مستوى التنافسية على الصعيد الاقتصادي.

مناقشة هذا الموضوع في المرحلة الراهنة أمر ضروري، من دون أي أحكام مسبقة، ومن دون أي اتهامات حول «حيتان مال» أو غيرها. ولا بدّ من التذكير بأنّه لو هاجرت جميع «حيتان المال» فلن تجد «البيرانا» ما تأكله.

لو أجرينا مراجعة شاملة لأدائنا الاقتصادي لرأينا أننا خلقنا بيئة معادية تماماً لكسب ثقة المستثمر، ويكشف تصنيف لبنان في تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال 2014» هذا الواقع السيّئ. فوفق هذا التقرير الذي يصنّف 182 دولة في العالم، يحلّ لبنان في المرتبة 111، متأخراً 6 مراتب عن العام الماضي. فبيئة الاقتصاد غير محفّزة لبدء الأعمال في لبنان، مروراً بصعوبة الحصول على التمويل والكهرباء وبقصر النظام القضائي.

الأمثلة على تردّي بيئة الأعمال كثيرة، فكيف سيطلق المستثمر أي مشروع في بلد لا تزال فيه رخصة البناء من عجائب الدنيا السبع، ففي تقرير صادر عن البنك الدولي اعتبر أنّ الحصول على رخصة البناء في لبنان يتطلب المرور بـ 20 إجراء إداريّ و211 يوماً لحيازتها.

كما أنّ التسجيل العقاري يستلزم 8 إجراءات يحتاج كلّ منها إلى 25 يوماً لإنجازها بكلفة 5.9 من قيمة الملكية، وهذه الرسوم فحسب. ولا يسجّل التقرير أنّ لبنان قام بأي خطوة لتبسيط الإجراءات وتسهيلها في هذا المجال. وهنا نعود لنذكر بالتخمين المركزي من جهة وإعادة النظر في جميع الإجراءات المتبعة للتسجيل العقاري في لبنان.

كيف سيتمكّن المستثمر من الحصول على التراخيص اللازمة في ظلّ بيروقراطية متأصّلة، فعمليات الرخص في لبنان هي بمثابة أسرار نووية، يضطر فيها من يريد الحصول على رخصة إلى اللجوء إلى خدمات سمسار ما يفتح الباب أمام الرشى والاستفادات غير القانونية.

كيف سيشعر المستثمر بالأمان ولا سبيل إلى حمايته مع تعثر القضاء وعدم قدرته على البت في النزاعات، وكيف سيشعر المستثمر بالحماية لأفكاره واختراعاته في ظلّ غياب تطبيق حازم لقوانين حماية الملكية الفكرية، فرغم تسجيل نموذج صناعي أو براءة اختراع، إلاّ أنّ التقليد منتشر في لبنان من دون حسيب أو رقيب.

كيف يمكن للمستثمر أن يكون تنافسياً في ظلّ أغلى كهرباء في العالم، وأغلى كلفة اتصالات عالمياً؟

كيف سيستطيع تصدير بضائعه في ظلّ سياسة عشوائية لمرفأ بيروت لا تأخذ في الاعتبار خلق اقتصاد تنافسي وإعادة موقع لبنان كصلة وصل بين الشرق والغرب، إذ تستمرّ إدارة المرفأ في فرض رسوم مرفئية على نوعية البضائع التي تحتوي عليها المستودعات وليس على حجم هذه الأخيرة أو وزنها، ما يجعل من هذه الرسوم عملياً ضريبة غير مباشرة مثل الرسوم الجمركية، طالما أنها تفرض بمعزل عن الخدمات المؤداة من قبل إدارة المرفأ، وبالتالي يجعل لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت تمارس صلاحية سيادية بامتياز – هي حصراً من صلاحية الدولة – بفرض ضرائب لمصلحتها، وتعود عائداتها لا للخزينة العامة إنما لحسابها وتتصرف بها خارج إطار الموازنة العامة. وذلك كلّه بخلاف قاعدة شمولية الموازنة. فضلاً عن ارتفاع كلفة الشحن، فمثلاً لوضع مستوعب 40 قدماً على ظهر باخرة لتصديره يكلف نحو 802 دولار مقسّمة على الشكل الآتي: النقل من وإلى مصنع يبعد نحو 20 كلم من المرفأ هو 250 دولاراً، رسم المرفأ 54 دولاراً، مساعي جمركية أي OVERTIME ولو كان خلال الدوام 13 دولاراً،FIO حسب الشركة 235 دولاراً على أساس أنّ شركات الملاحة تدفع هذه الأكلاف للمرفأ وبغياب تام للشفافية، معقّب المعاملة ومصاريف كشف أولا كشف 250 دولاراً.

كيف نوفر بيئة محفزة للمستثمرين في ظلّ هذه الظروف والاستمرار في التصرف العشوائي في ما يتصل بجذب الاستثمارات والمستثمرين؟

كيف سيقتنع المستثمر بسلامة اقتصادنا في حين ما زال القطاع العام يتعثر وهو غير قادر على منح الخدمات المتقدمة التي يسعى إليها كلّ مستثمر، في ظلّ فائض في التوظيف وعدم رقابة على الأداء ومحاسبة. وفي ظلّ 32 ساعة عمل أسبوعياً، وفي ظلّ تدخل الدولة ليس في رواتب القطاع العام فحسب، بل أيضاً في رواتب القطاع الخاص، وفي ظلّ إنتاجية في القطاعين العام والخاص هي اليوم بين الأسوأ في العالم؟

أدركت جميع الدول أهمية جذب الاستثمارات وقولبت سياساتها الاقتصادية كافة لخدمة هذا الهدف، وبات هناك احتدام للتنافس بين الكثير من الدول النامية والمتقدمة على السواء لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عن طريق تقديم العديد من الحوافز. اما نحن فما زلنا نعيش في عالم آخر.

يتشارك المجتمع كلّه اليوم مسؤولية جذب المستثمرين، ويجب أن تضع الحركات العمالية وناشطو المجتمع المدني والمسؤولون هذا الموضوع في قائمة الأولويات، فلا يمكننا الاستمرار في دوامة مفرغة من الواردات والمصاريف. نحتاج الى أفق جديد وفرص جديدة. نحتاج الى ضخ دم استثماري جديد، ولن نتمكن من ذلك ما لم نثبت أننا أهل للثقة لدى المستثمرين.

أعود لأبحث عن العقول النيّرة من قراء هذه الصحيفة النهضوية. تعالوا لنناقش…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى