حديث الجمعة

يعاقبون أنفسهم بالجهل: دوستوفسكي معاقباً في أوروبا… لأنه روسيّ!

كلمات من كتب الأخوة كارامازوف والشيطان والجريمة والعقاب للكاتب العالمي الخالد فيودور دوستوفسكي بمناسبة تعرّض كتاباته للحذف من المنهج الدراسي الجامعي في إحدى الجامعات الإيطالية في سياق العقوبات على روسيا:

أيها السيد الكريم، ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السكر فضيلة، أنا أعرف ذلك أيضاً. ولكن البؤس رذيلة أيها السيد الكريم، البؤس رذيلة. يستطيع المرء في الفقر أن يظل محافظاً على نبل عواطفه الفطرية، أما في البؤس فلا يستطيع ذلك يوماً، وما من أحد يستطيعه قط. إذا كنت في البؤس فإنك لا تطرد من مجتمع البشر ضرباً بالعصا، بل تطرد منه ضرباً بالمكنسة بغية إذلالك بمزيد من الإذلال. والناس على حق في ذلك لأنك في البؤس أول من يريد هذا الذل لنفسه بنفسه.

إنني أحبّ الإنسانية، غير أن هناك شيئاً في نفسي يدهشني: كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفراداً… إنه ليتفق لي كثيراً أثناء اندفاعي في الأحلام أن تستبد بي حماسة شديدة ورغبة عارمة جامحة في خدمة الإنسانية، حتى لقد أرتضي أن أصلب في سبيلها إذا بدا هذا ضرورياً في لحظة من اللحظات. ومع ذلك لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنسان، لما استطعت أن أحتمل ذلك. إنني أعرف هذا بتجربة، فمتى وجدت نفسي على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتي وتجور على حريتي، إنني قادر في مدى أربع وعشرين ساعة أن أكره أحسن إنسان. فهذا في نظري يصبح إنساناً لا يُطاق لأنه مسرف في البطء في تناوله الطعام على المائدة، وهذا يصبح في نظري إنساناً لا يطاق لأنه مصاب بالزكام فهو لا ينفك يمخّط، إنني أصبح عدواً للبشر متى اقتربت منهم… ولكنني لاحظت في كل مرة أنني كلما ازددت كرهاً للبشر أفراداً، ازدادت حرارة حبي للإنسانية جملة.

هل تعلم؟ ما من شيء أمتع للإنسان من أن يعيش في صخبة حمقى، ومن أن يعزف على أوتارهم: إنه يستفيد من ذلك! لا تأخذ عليَّ أنني أقيم وزناً لأراء المجتمع، وإنني أحرص على بعض المواضعات، وأنني أنشد الاعتبار والجاه. أنا أعرف أنني أعيش في مجتمع تافه. ولكنني حتى الأن أتحمس له، وأنعق مع الناعقين؛ إنني أتظاهر بالدفاع عنه دفاعاً حاراً، ومع ذلك فمن الممكن، إذا اقتضى الأمر، أن أهجره أول من يهجره. إنني أعرف جميع أفكارهم الجديدة، رغم أنني لم أحفل بها يوماً. وعلام أحفل بها؟ إنني لم أشعر يوماً بعذاب الضمير. إنني أقبل كل شيء، متى كان لي فيه نفع. وأمثالي كثيرون، ونحن جميعاً في أحسن حال حقاً. يمكن أن يفنى كل شيء على الأرض، وأن نظل نحن وحدنا لا نفنى أبداً. إننا نوجد منذ وُجِدَ الوجود.. قد يغرق الكون كله، ونبقى نحن نطفو على وجه الماء، نطفو إلى الأبد. أنظر، بهذه المناسبة، كم تطول حياة أمثالنا. إننا نعمر كثيراً، ألم يلفت نظرك ذلك؟ إننا نعيش حتى الثمانين، حتى التسعين. فالطبيعة نفسها تحمينا إذن.. هه هه.. أريد أن أبلغ التسعين حتماً، أنا لا أحب الموت. سحقاً للفلسفة. فلنشرب، يا عزيزي. كنا نتحدث عن البنات الجميلات لماذا تقوم؟

 الآلام أنواع: فهناك آلام تخفض قيمتنا أو تنقص قدرنا، كالجوع مثلاً؛ فالناس تحب أن تصدقنا في ما يتعلق بهذا النوع من الآلام، ليجعلوا من أنفسهم محسنين إلينا بعد ذلك. أما إذا كان الألم أرفع من هذا درجة أو درجتين، إذا كان ألما نحتمله في النضال من أجل فكرة مثلا، فإن الناس يرفضون أن يصدقوه، باستثناء قلة قليلة. وهم لا يصدّقونه لأنهم حين نظروا إلى صاحبه رأوا أن رأسه ليس ذلك الرأس الذي لا بد أن يكون في نظرهم رأس من يتألم في سبيل قضية رفيعة تلك الرفعة كلها. وهم عندئذ يأبون أن يتعاطفوا معه أي تعاطف؛ دون أن يكون في موقفهم هذا شيء من روح الشر على كل حال.

فيودور دوستوفسكي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى