أولى

في بلد تعدّدي: كيف تُسهم الثقافة في بناء هوية ودولة ووطن؟

‭}‬ د. عصام نعمان*
بدعوةٍ من هيئة بحوث ودراسات إسلامية، شاركتُ في ندوةٍ بعنوان “مساهمة الثقافات في حقوق الإنسان”، تخللتها دراسات وتدخلات عدّة كانت لي بينها واحدة قلتُ فيها لمشاركين ومتحاورين مسلمين ومسيحيين وعلمانيين ما هو آتٍ:
التعدديةُ مكوّن أساس في حياة الإنسان والجماعة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا – قرآن كريم). ثمة حكمة وجودية، كونية، تكوينية في التعددية. لا وحدانية مطلقة إلاّ لله تعالى.
تعدديةُ الشعوب تستبطن، في ظاهرات كثيرة، ثقافات متعددة. لكلٍّ من هذه الثقافات خصوصيتها ومميزاتها. ولكلٍّ منها دور وإسهام في الحياة بكلّ عناصرها ومستوياتها. من الطبيعي، والحال هذه، ان يكون لها إسهام في مسألة حقوق الإنسان.
حقوقُ الإنسان متعدّدة. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 أوجزها في ثلاثين مادة. حقوق أخرى نشأت وتبلورت خلال الأعوام الخمسة والسبعين التي أعقبت صدوره. مع ذلك، يبقى الحق في التعلّم والتثقف واحداً من أبرز حقوق الإنسان وأهمّها. فوق ذلك، من حق الإنسان، دونما شك، ان يكون له هوية ودولة ووطن.
ليس في مقدوري، بهذه العجالة، ان ألمّ بكلّ الثقافات وأن أحيط بإسهامها على الصعيد السياسي في تعزيز حقوق الإنسان او في انتهاكها، لا سيما في الظروف الصعبة التي تعيشها الشعوب كما حالنا في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا.
لبنان، كما تعلمون، بلد تعدديّ. تعدديته تتجلّى في كثرة طوائفه وعشائره وأحزابه وتكتلاته ومعتقدات شعبه ومواطنيه. التعدد يستبطن بالضرورة الخاتلاف والخلاف. الاختلافاتُ بين اللبنانيين كثيرة، ومثلها الخلافات.
الاختلافُ لا يستبطن بالضرورة اختلافاً وتنازعاً. بالعكس، ثمة ميّزة رئيسة للاختلاف هي استيلاد التنوّع الذي يمور غالباً بالغنى المعنوي والمادي.
للخلافات أسباب متعددة، قد يكون أحدها اختلافاً في الطبائع والمطامع والمصالح. لهذه في الغالب الأعمّ حوافز ودوافع أكثر فعالية في انتقال الأفراد والجماعات من حال الاختلاف الى حال الخلاف.
من أسفٍ أننا في لبنان عرفنا الخلافات أكثر مما عرفنا الاختلافات. تاريخنا السياسي يضجّ بخلافاتٍ أكثر مما يمور باختلافات تشعُ بمزايا ومآثر وإبداعات.
لهذه الظاهرة أسباب متعددة بينها اختلاف الثقافات الناجم ليس عن تعدد المذاهب والمشارب فحسب بل عن تعدد التدخلات الأجنبية ايضاً وذلك لغايات ومصالح ومطامع غير سليمة بل هي في معظمها خبيثة ودنيئة.
أليس لافتاً أنّ الدول الكبرى ذات الأطماع مهّدت لتدخلاتها وبالتالي لاحتلالاتها واستغلالاتها بإنشاء مدارس لها وجامعات أسهمت جميعها في إشاعة عادات ومعتقدات وطرائق حياة لا تخدم بالضرورة حاجات وتطلعات شعبنا بمعظم مكوّناته الدينية والوطنية والسياسية؟
ما كانت القوى الخارجية لتنجح في تدخلاتها وأغراضها السياسية والاقتصادية لو كان لدى أمراء الطوائف والحكّام وأصحاب النفوذ عندنا، المدعومين غالباً بقوى خارجية نافذة، حسٌّ وطني وترجيح للقواسم والمصالح المشتركة وغلبة على اسباب التباعد والافتراق والتناحر على السلطة والنفوذ والوجاهة والمصالح الفردية والطائفية الضيقة.
لكلّ هذه العوامل والأسباب تأخّر لدى مجتمعاتنا تبلورُ حسٌّ وهوية وطنيان أعلى وأقوى من العصبيات والولاءات السائدة عندما غزتنا القوى الخارجية الطامعة بثقافاتها وتدخلاتها ومن ثم بجيوشها الجرارة.
الإنسان إبن ثقافته. من خلالها يحدّد مواقفه ومصالحه إزاء التحديات التي يواجهها في الحياة. ما لم نبلور ثقافةً وهوية وطنيتين جامعتين أعلى من الثقافات والتقاليد المحلية الشائخة لن تكون لنا هوية ودولة وطنيتان ولا بالتالي وطن واحد موحد. الدولة الواحدة المستقلة السيّدة شرط لقيام الوطن الموحّد المستقل.
نفتقر في لبنان للدولة الوطنية السيدة الواحدة. ما لدينا حالياً مجرد نظامٍ سياسي طوائفي تحكمه شبكة سياسية متنفذة قوامها أمراء طوائف، ورجال أعمال وأموال متعطشون للسلطة، وضباط متنفذون في أجهزة استخبارات القوات المسلحة، وأحياناً وجزئياً، قيادات وطنية مقاوِمة للاستعمار والصهيونية.
مَن ينهض بمهام بناء ثقافة وهوية وطنيتين جامعتين أعلى من العصبيات الطائفية والثقافات المحشوّة بقيم وتقاليد وطرائق حياة غربية وغريبة غير صالحة لمواجهة ما عندنا من تحديات سياسية واقتصادية، ولمعالجة أزمات ومشاكل اجتماعية ضاغطة ومعقدة؟
لستُ مغالياً إذا قلت إنّ الفئة المطالَبة بالنهوض الى تحقيق المهام والأهداف والمطامح سالفة الذكر هي طلائع المثقفين الوطنيين الملتزمين قضية شعبهم بكلّ أبعادها وجوانبها، الحريصين بلا إبطاء على الاتحاد ومباشرة جهود مكثفة لإنتاج ثقافة وهوية وطنيتين جديدتين نابعتين من قيم شعبنا ومطالبه المتعارف عليها في الحق والحرية والعدالة والتنمية، وترجمتها الى برنامج متكامل سياسي – اقتصادي – اجتماعي، ينهض به قياديون مقتدرون ومناضلون مثابرون بنَفَس طويل وعزيمة قوية متجددة وحكمة ومرونة في تقديم الأهمّ من المطالب والحاجات على الأقلّ أهمية وفق جدول أولويات يتبدّى فيه الأكثر إلحالحاً على أقلّها. كلّ ذلك من خلال بناء تحالف شعبي سياسي عريض يضمّ قوى ومواطنين نهضويين يناضلون تحت راية البرنامج سالف الذكر من أجل تزخيم العمل على إقامة دولة المواطنة المدنية الكفيلة بتعبئة اللبنانيين وحملهم، سلماً وتدريجاً، على الانخراط في مشروع بناء الوطن الواحد الموّحد.
هل ثمة مسار آخر أجدى وأفعل؟
*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى