أخيرة

نافذة ضوء

إنسانيةُ الدين ِ رقيٌّ سوري وبالرقيِّ النفسيّ تنهضُ سورية

‭}‬ يوسف المسمار*
ألم يكن انجيل يسوع السوري هو الرحيق الروحي الإنساني الإلهي الذي لجم جموح الهمجية الإغريقية والرومانية؟
ألم يكن قرآن النبي محمد (ص) الكنعاني الشامي الأرومة والعربي اللسان المعبّر التعبيري البليغ الفصيح، وليس الأعرابي، هو المياه القدسية العذبة الصافية التي أطفأت هيجان نيران ضلالات الروم والفرس والفراعنة وحمية أعراب الجاهلية؟
يتضح، اذاً، مما أوردناه أن كلمة دين تحتمل معنيين متناقضين واتجاهين متعاكسين وروحيتين يستحيل التوفيق بينهما كاستحالة التوفيق بين النور والظلام، أو التساوي بين الحق والباطل، أو التصالح بين الخير والشر.
وقد عبّر عن هذه الحقيقة السيد المسيح بقوله لأتباع دين الباطل والشر: «ويلٌ لكم أيها الكتبة والفريسون المراؤون، لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا تسمحون للذين يريدون الدخول أن يدخلوا».
لتأتي بعد ذلك الآية القرآنية الحكيمة مصدّقة لقول السيد المسيح وحاسمة باستحالة اللقاء والتصالح بين دين أساسه العقل والإيمان والعمل الصالح، يوحّد الناس على خيرهم بالتحابب، ويجمعهم على صلاحهم بالتراحم، ويحثهم على الاجتهاد والجهاد لاكتساب المزيد من العلم وتحصيل المزيد من المعارف النافعة، والتميّز بممارسة الخلق الكريم، وبين دين أساسه الغرائز والنزوات العابرة والكفر بالحق وترويج الفتن بين الناس، وتشجيع الخلافات والاقتتال بإشاعة الوشايات التي تخلق التحزبات والفئويات والطائفيات التي تخرّب بنية المجتمع ولا تؤدي إلا الى التعاسات والشرور قائلة:
«قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم وليَ ديني».
بدأ الدين السوري تكهناً راقياً
لقد انبثق فجر الدين في سورية تصوّراً فكريا متقدماً، وتكهناً راقياً سامياً أوصل الانسان السوري الى فكرة الله الخالق المبدع المحب الرحيم الذي أسبغ على خلقه النعم، وجعل الإنسان قيّما ووكيلاً ومؤتمناً ومسؤولاً عن العناية بالأرض، ورعاية والحفاظ على ما عليها من المخلوقات.
ووهبه العقل الذي هو قوة التمييز بين الخير والشر، فيتجنب به الشر، ويصعد بالخير الى حيث يحب لنفسه ويحب له الله أن يصعد، فيكون بصعوده الخيِّر قدوة للناس، ونبراساً يهتدي به كل من هام على وجهه في الظلام.
ومن أجل كل هذا شغلت مسألة نشوء النوع البشري عقل الإنسان كما يقول العالم الاجتماعي والفيلسوف السوري أنطون سعاده في كتاب نشوء الأمم:
«منذ ابتدأ الإنسان يشعر بوجوده ويعقل نسبته الى مظاهر الكون ونسبة هذه المظاهر إليه. فأخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود إليه بعد فناء جسده. ولم يكن هذا التكهن الراقي في التصوّر مما تنبه له الإنسان كما يتنبه للموجودات الواقعية، بل كان درجة بارزة في سلم ارتقاء الفكر سبقتها درجات من التخرصات الغريبة».
نعم لقد بدأ الدين تكهناً راقياً في التصوّر عند الانسان السوري وكان درجة ً بارزة في سلّم ارتقاء الفكر كما أنه انطلق من الأرض السورية وكانت وجهته السماء. ولهذا كانت مراميه بعيدة الأبعاد، ولا نهائية الآفاق.
ولم يكن ديناً يهبط من السماء فينتهي باصطدامه بصخور الأرض أو يغطس ويختفي في لجج البحار، بل كان منذ انطلاقته محباً للتقدم، وعاشقاً للارتقاء، وممعناً في التسامي. أبصر النور في ملحمة الخليقة، وحباً في سومر وأور وبابل وآكاد ونينوى، وترعرع في أوغاريت وآفاميا وجبيل وماري، وشبَّ في صيدون وصور وبعلبك وتدمر، ونضج في القدس وبيت لحم وجرش ومكة ودمشق وبيروت وبغداد وعمان والكوفة وكربلاء وحلب وانطاكية والاسكندرون، وما زال ساعده يشتدّ ويقوى فوق كل حبة تراب من تراب الهلال الخصيب في فلسطين، ولبنان، والعراق، والشام، والكويت، والأردن، وكل ذلك من أجل تشريف حياة الإنسان في كل مكان، ورفع مستواه الروحي والفكري والعملي ليبقى قادراً على النموّ وتوسيع آفاق نضوجه ورشده، فلا يتحجّر ولا يتصنّم ولا ينشلّ فيكتفي بما مضى ويكرّر ما تخلف وما عفى عليه الزمن وما رثّ من العادات والتقاليد، والأفكار والمفاهيم، بل يتابع مسيرة التطور والتطوير، والحضارة والتحضير، والتجدد والتجديد وتوسيع مدارالمعرفة علوماً تتجاوز علوماً، وفنوناً تتخطى فنوناً، وشرائع ترتقي فوق شرائع، ورسالات دينية روحية مناقبية تتكامل وتكمل بعضها بعضاً، وقيَماً وأخلاقاً تتسامى لتجعل الإنسانية أقدر وأجدر من الملائكة على التقرّب من الإله المحب الرحيم، وهذا ما كانه وهدف إليه دين سورية العظيم في مختلف رسالاته الفكرية والمعرفية والعلمية والتشريعية، والأدبية والفنية، والرياضية والفلكية، والهندسية والحسابية، والمادية والروحانية، والذي نشأ عقيدة من رحم عقل وعقلية الأمة الخلاقة المبدعة، فاختلط أمره على مرضى العقول والنفوس والضمائر حتى حسبوه هابطاً من السماء الى الأرض بدلاً من أن يروا في الدين صعوداً من الأرض الى السماء.
أليس الدين عقيدة؟
أليس معنى العقيدة فكرةً وإرادة وممارسة؟
أليس الفكر والإرادة والممارسة مظاهر انسانية؟
أليس الدين عقيدة تُعاش وقد يكون العيش بالمعرفة والمناقب والأخلاق كما يمكن ان يكون بالجهالة والمثالب والمفاسد؟
فمن مارس المعرفة والمناقب والأخلاق صعد الى السماء وتألق وتفوّق. ومن تمترس بالجهالة والمفاسد والمثالب تقوقع وانطفأ وانقرض. لكن النفسية الراقية العزيزة الجميلة لا يكون فكرها الا راقياً، ولا تكون إرادتها الا قوية وعزيزة، ولا يكون عيشها الا جميلا وراقياً.
وبناء عليه فقد كان الدين السوري في جميع رسالاته الإنسانية الأرضية منها والسماوية دين الرقيّ والجمال والعزة لأنه انبثق عن نفسية جميلة راقية عزيزة. وهذا ما تنبه اليه أحد فلاسفة الولايات المتحدة الأميركانية عندما قال:
« لقد أخذنا نحن الغربيين من المسيحية القشور ولم نأخذ اللبّ، ولذلك كانت مسيحيتنا ناقصة».
*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى