ثقافة وفنون

خاصيّات قصيدة الومضة (1)

 

} إلهام بوصفارة*

} روافد ظهورها

لن أنحي في هذه المداخلة إلى البحث عن التحوّلات التي شهدها الشعر العربيّ وأهمّ روافده وصولاً إلى ظهور الومضة ومسارات انتشارها. ولن أقف أيضاً عند تعريفها لغة واصطلاحاً لأنّ هذا من السهل اقتناصه من المعاجم والمواقع الإلكترونية. بل سأقف عند الإشكاليات، ولن أطيل عليكم احتراماً لمقام الومضة وما تستدعيه من إيجاز وتقصير رفعاً للملالة. سأكتفي بقول وجيز ليوسف الخال يختزل بكلّ بساطة سبب ظهور شعر الومضة «نحن نجدّد في الشعر لأنّ الحياة بدأت تتجدّد فينا. القافية التقليدية ماتت والوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تغيّر نسق الحياة وكما أبدع الشاعر الجاهلي شكله الشعري للتعبير عن حياته علينا كذلك أن نبدع شكلاً جديداً للتعبير عن حياتنا». فلقد أوعز ظهورها إلى الرغبة في التجديد وإيجاد صيغ تعبيرية جديدة تبدو أنسب للتعبير عن نسق العصر وتدفعنا إلى الانفتاح على الآداب العالميّة والنّهل منها. ونحن اليوم أمام شكلِ شعريّ يسمّى بـ«الومضة» وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، معبّرة عن هموم الشاعر وآلامه، وهي مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر الذي لم يعد يسمح بنظم القصائد الطوال. وقد راجت قصيدة الومضة في السبعينيات من القرن العشرين وباتت تستقلّ بنفسها حتى أصبحت شكلاً شعريّاً خاصّاً.

} إشكاليّة تعريفها

عز الدين المناصرة الذي يُجمع النّقاد على أنّه أوّل من كتب قصيدة التوقيعة في الأدب العربي عام 1964 يعرّف قصيدة التوقيعة التي اعتبرها النوع الخامس بعد القصيدة العموديّة ـ الموشّح ـ التفعيلة ـ النثريّة، بأنها «قصيدة قصيرة جداً، موجزة، مكثفة، تتضمن مفارقة مدهشة». وتُعرَّف الومضة الشعريّة عامّة بأنّها لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمرّ في المخيّلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ معتمداً على تركيزٍ عالٍ وكثافة شديدة تمكّنه من النفاذ إلى الذاكرة للبقاء فيها. وفي كتاب قصيدة الومضة ـ دراسة تنظيرية تطبيقية تأليف: هايل محمد الطالبأديب حسن محمد يعرّفانها بأنّها قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة التي تقوم على فكرة واحدة أو حالة واحدة يقوم عليها النصّ، تتكوّن من مفردات قليلة تتشكّل بطريقة لمّاحة واضحة سريعة. لكن هل هذا يكفي لتعريفها وتحديد خاصّياتها؟ يعني من خلال هذه التعريفات لهذا الجنس نستشفّ أنّ الومضة تقوم على الاقتصاد اللّغويّ (لا يقلّ عن ثلاث كلمات ولا يزيد عن الواحد والعشرين كلمة). مع الانتباه إلى أنه ليست كلّ قصيدة قصيرة جداً هي قصيدة ومضة، فهناك مُحدِّدات أخرى غير القصر والكمّ يُشترط وجودها في القصيدة الومضة مثل الكثافة المولّدة للغموض وقوّة الصورة والإدهاش الناتج عن المفارقة. فهل تقوم الشعرية في قصيدة الومضة على هذه الخصائص الثلاث فقط: قِصَرَ الحجم والتكثيف والإدهاش فقط؟

} خاصّيات قصيدة الومضة

يشترط في الجنس الأدبيّ أن تتوفّر فيه مجموعة من القواعد والمقاييس الخاصة كي نتمكَّن من تصنيف نَصٍّ ما ومأسسةفنحن لا يمكننا أن ندرجَ داخل جنس الومضة نصًّا ما إذا ما لم يحترم قواعد هذا الجنس وتتوفّر فيه السمات المخصوصة المميّزة له. يعني مبحثنا سيكون في أهمّ خصائصها الفنية والسمات المهمّة التي تجعلها مميَّزةً عن باقي الأجناس ومتكرِّرة مِن قصيدة ومضة إلى أخرى. وإن كنّا نتحدّث عن الخصائص فلا بدّ أن نقف عند الفوارق بين قصيدة الومضة والأجناس التي تلتبس معها بحكم القصر مثل القصة الومضة والقصة القصيرة جداً والقصيدة القصيرة جداً. فما الذي يميّز قصيدة الومضة عن القصّة الومضة والقصّة القصيرة جدّا إذا كانت الأخيرتان بدورهما تشترطان السمات نفسها من قِصَرَ الحجم والتكثيف والإدهاش؟

وليس همّي التعسّف ووضع أسلاك شائكة بين الأجناس الأدبيّة بل أطلب السّمات المميّزة لكلّ نوع على سبيل المعرفة. فمن السهل التمييز بين قصيدة الومضة والقصة القصيرة جدّا باعتماد مقياس الحكاية بينهما، لكنّ قصيدة الومضة قد تلتبس بالقصّة الومضة التي لا يهمّها الانشغال كثيراً بالحدث بقدر ما يهمّها أن تؤدي غرضها الفنّي في أن تبرق وتشعّ داخل النص القصصي أولاً ثم داخل وجدان المتلقي. فكيف نميّز بين القصيدة الومضة والقصة الومضة؟ القصة القصيرة جداً والقصة الومضة تشترك مع قصيدة الومضة من حيث الإيجاز والتكثيف والإدهاش، لكن في سياق سرديّ خالص خالٍ من أي بلاغة شعريّة.

مثال: قصّة ومضة لمحمد إقبال حرب بعنوان «قبلة»: قبَّلها قُبلة الحب الأخيرة عند عقد القِران / الزمن هو زمن الومضة الذي يشير إلى (زمن عقد القران) وهو مواكب للحدث (القبلة) أو يؤرّخ له. والقصّة الومضة تدهش حين تضمن ذاك «التقابل التناظري» شكلاً ومضموناً: قبلة الحب الأخيرة ويقابلها زمن عقد القران. وأظنّ الشاعر قد أنجز المهمّة بنجاح من جهة التلميح فأهمّ المآزق في علاقة الرجل بالمرأة هو المفهوم الرّجعي الذي يتبنّاه الرجل للزواج: عقد امتلاك لأنثى ومفهوم الحبّ: حيلة للإيقاع بالأنثى. لكنّ قوله في سياق سرديّ لا شعريّة فيه.

مثال آخر قصّة ومضة لبهيجة البقالي القاسميّ من المغرب: «باب ونافدة وجدران وأمّ تبكي على منزل بلا سقف»، فخصائص الإيجاز والتكثيف والإدهاش المتولّد عن المفارقة أو التقابل بين الموجود والمنشود في رمزيّة السقف، متوفّرة لكنّها في سياق سرديّ خالص لا شعريّة فيه.

تأمّلوا معي المثال الثالث للشاعرة التونسية ضحى نويصر: كلّما تهدّم ركن في بيتهارتقته بجلدهافصارتحجراً» هذه قصيدة ومضة تختلف عن القصة الومضة في مستوى الشعريّة أي الاختيارات الأسلوبيّة والبلاغيّة التي اختارتها الشاعرة في التعبير عن الذات.

فالشعرية إذن هي الفاصل المميّز لقصيدة الومضة. والشعرية حسب جميل حمداوي هي عبارة عن القوانين والسّمات التي تميّز فنّاً أدبيّاً عن باقي الفنون والأجناس الأخرى. إذن ليس الإيجاز والتكثيف والإدهاش هي شروط الشعريّة إطلاقاً، والدّليل على ذلك وجود هذه الخاصيّات في القصّ وفي أشكال سرديّة عديدة. فإن كانت الحكائية هي المحدّدة لجنس القصّة طالت أو قصرت فإنّ الشعرية خاصّية فارقة في قصيدة الومضة لا تكون قصيدة بغيابها. مع الانتباه إلى الفرق بين الشعريّة والشاعريّة.

وأسوق مثال الأعمى الذي راح يتسوّل فكتب على لافتة: «أنا أعمى» فمرّ عليه رجل فاستاء من الكلمة. فكتب له على قفا اللّافتة: «يجيء الرّبيع فلا أراه»، بين وجه اللافتة وقفاها يكمن الشعر. فأنا أعمى.

قول سائد في متناول الجميع أمّا القول الثاني فهو صورة شعريّة موقّعة لا تأتي إلّا من قريحة شاعر يحمل رؤية شعريّة مخصوصة لعلاقة الإنسان بالعالم. والومضة لتكون ومضة يلزم أن يتوفّر فيها إلى جانب الخصائص الأخرى الإيجاز والتكثيف والإدهاش سمة الشعرية المتجلّية في بُعدين / سمتين: الصورة والإيقاع.

(يتبع)..

*الأدب الوجيز/تونس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى