أولى

الانتفاضة الأميركيّة ضدّ العنصريّة ‏ خواطر فكريّة وتجارب شخصيّة ‏

 د. محمد أشرف البيومي*

 

تعرّفي الأول إلى العنصريّة في أميركا

حدث أول احتكاك لي بالعنصرية ضد الملوّنين في أميركا منذ خمسة وستين عاماً. كان مشهداً صادماً ومضحكاً في الوقت نفسه. كنت شاباً في العشرين من عمره وقد وصلت لتوي من الإسكندرية بعد رحلة طويلة على باخرة الخديوية المصرية، تبعها سفر بالقطار إلى جاكسونفيل بفلوريدا ثم قطار آخر إلى العاصمة، تلاهاسي، كان الجو حاراً في شهر أغسطس/ آب. وفاقم المعاناة أنني كنت أرتدي بذلة صوف وصديري، امتثالاً للتحذيرات ببرد «بلاد برة». وجهني مشرف القطار إلى عربة حقيرة وغير مكيفة. لاحظت أنّ جميع الركاب من السود فانتابني غضب شديد وقمت بالانتقال إلى عربة أخرى به مكيّفة وجميع ركابها من البيض! صدمت عند وصولي إلى محطة السكة الحديدية بتلاهاسي. فالمكان متواضع للغاية دهشت لحقارته، خصوصاً أنها محطة عاصمة ولاية فلوريدا. كان العرق يتصبب والعطش يتملّكني فاتجهت مسرعاً نحو نافورة مياه الشرب وكان لي خياران إما النافورة التي عليها عنوان «أبيض» أو الأخرى التي عليها عنوان «ملوّن». كنت مشدوها بأميركا ومتأثراً بالدعاية المثيرة التي مثلت أميركا كبلد العجائب فاخترت النافورة المعنونة «ملون» ظناً أنني سأشرب ماءً ملوناً قد يكون بنفسجياً أو فستقياً او برتقالياً. صدمت بأن الماء لا لون له وليس بارداً ثم أصابتني صدمة عنيفة بأن عنوان «ملون» و«أبيض» يتكرر على أبواب دخول المحطة ودورات المياة، مؤكداً أن هذه عناوين الفصل العنصري. صاحبت صدمتي ابتسامة وكأنني أقول يا للسذاجة لظني أنّ الرئيس لنكولن حرر العبيد وقضى على العنصرية في أميركا!

تطوّر معرفتي بالعنصرية في أميركا

انخرطت بسرعة في الدراسة كطالب للدكتوراه في الكيمياء في جامعة ولاية فلوريدا. وسرعان ما أدركت أن جميع طلاب الجامعة من البيض أما وجود السود فاقتصر على عمال النظافة والخدمات. كانت هناك جامعة أخرى في المدينة «للنجرو» أي للسود (الإسم الشائع للجامعة نجرو كولدج). لم أتعرّض لمشاكل العنصرية داخل الجامعة. أما خارج الجامعة فكنت أتعرّض أحياناً إلى نظرات الازدراء والاحتقار من مواطنين يشكون بأني «نجرو». كان موقفي الشخصي هو إدانة التمييز، ولكن كنت في الوقت نفسه أتبرّأ من كوني نجرو وأعلن عن مصريتي وأصلي الفرعوني والعربي.

لاحظت أنّ السود الأميركيين الذين تصادف لقائي بهم والحديث مع بعضهم تغمرهم سعادة كبيرة بمعرفة أني مصري من بلد جمال عبد الناصر الذي اعتبروه «نصير الضعفاء والمظلومين». كنت أشاهد أمثلة عديدة تنمّ على احتقار البيض الشديد للسود فمثلا هذا الشاب الأبيض في العشرين من عمره ينادي رجلاً وقوراً أسود يعلو الشيب رأسه «يا ولد تعال هنا». ثم يأمره بأداء خدمة ما، ومشاهد أخرى تدلّ على مدى القهر للسود والخوف الذي يطل من أعينهم. بدأت حركة الحقوق المدنية وبدأ السود الذهاب لكافيتريات ممنوعة عليهم متحدين العنصرية وأحيانا تعرضت شخصياً لرفض تقديم الخدمة. في هذا الوقت كان وعيي قد تطوّر ورفضت أن أقول إنني لست أميركياً أسود وكنت أصرّ على البقاء وطلب الخدمة بل والاعتراض على العنصرية المقيتة. رفضت أيضاً اعتراض الجيران بسماحي لمربية ابنتي السوداء بالجلوس في المقعد الأمامي مما سبّب بعض التهديدات.

تعمّق ثقافي بالعنصرية ووضعها في الإطار التاريخي

لم يكن هناك مناصّ من التعرّف الثقافي التاريخي والسياسي والاقتصادي بوباء العنصرية، فهي الوسيلة الأكيدة للتصدي لها ومعاداتها حتى أصبحت صديقاً لمجتمع الطلبة السود بجامعة ولاية ميشيغان التي كنت أستاذاً فيها لسنوات عديدة. وكان ذلك في إطار حملة لسحب استثمارات الجامعة من نظام الأبارتايد العنصري بجنوب أفريقيا والتي نالت شكر نيلسون مانديلا عندما تحرّر من سجنه وتأكيده على الشعار الذي كنا نتبناه في نشاطنا السياسي في الجامعة: «نفس النضال بمختلف الجبهات» والذي يشمل بطبيعة الحال الكيان الصهيوني العنصري.

بالطبع هناك محطات هامة في تطور الحالة العنصرية بأميركا أهمّها قانون الحقوق المدنية في عهد الرئيس ليندون جونسون والذي تسبّب في تحوّل الولايات الجنوبية من مؤيدين للحزب الديمقراطي الذي ينتمي له جونسون إلى مؤيدين للحزب الجمهوري الذي كانوا ضدّه، لأنّ رئيسه لنكولن هو الذي قاد الحرب الأهلية ضد الجنوب والمشهود له بأنه «محرّر العبيد» رغم أنه كان مناصراً لفصل السود عن البيض كنظام الأبارتايد أو تصديرهم لدولة أفريقية.

أدركت أنّ السماح للسود بدخول جامعات البيض والسكن أحياناً في مناطق يسكنها البيض وتجنب تلقيب السود بـ «النجرو»، أو انتخاب رئيس أسود لم يعنِ مطلقاً القضاء على العنصرية مما جعلني أردّد كثيراً أنّ «العنصرية حية وبصحة جيدة»، عندما يزعم البعض أنه تمّ القضاء عليها.

ارتباط العنصرية العضويّبالاستعمار والاقتصاد الرأسمالي

لا يمكن تناول الموضوع بالتفصيل في هذا المقام، ولكن من المهمّ التأكيد علي بعض نقاط أساسية:

أولاًيشكل النهب والعنف والعنصرية مكوّناً ثلاثياً للإمبريالية والاستعمار خصوصاً الاستيطاني. ولأن هدف الاستعمار الأساسي نهب الثروات والهيمنة ولأن ذلك لا يأتي طوعاً فمن الضرورة استخدام العنف بل والإبادة في حالة الاستعمار الاستيطاني بالذات. وهكذا يصبح العدوان والقتل مكوناً أساسياً للاستعمار. أما المكون الثالث الذي لا مناص منه هو العنصرية فلا بدّ من احتقار من ستنهبهم ومن ستقتلهم وتبرير ذلك باستخدام الدينو وتصويرهم بأنهم أشرار مخيفون حتى لا يشعر القاتل بتأنيب الضمير عند الإساءة لهم أو قتلهم. هذا ما حدث في حالة السكان الأصليين في أميركا الذين أسماهم الاستعماري كولمبس بـ «الهنود الحمر»، وكذلك في حالة المستعبدين السود الذين جيء بهم عنوة من أفريقيا في حملات متتالية وأصبحت العبودية نظاماً أساسياً للرأسمالية ودعامة أساسية لمزارع القطن وقصب السكر والتبغ والمطاط، وبعد ذلك لصناعة النسيج وغيرها من الصناعات العديدة والتي أصبحت ركيزة للتجارة العالمية.

ثانياًيتطلب التخلص من آفة العنصرية تغييراً بنيوياً جذرياً يشمل تعويضات هائلة نظير العرق والدم الذي بذله السود في بناء أميركا كعبيد سابقاً والآن كمستضعفين.

ثالثاًلا بدّ ان يصحب هذا التغيير ثقافة واسعة للجميع حول تاريخ العبودية وآثارها المتعددة بما في ذلك النفسية؛ أما التغييرات الهامشية مثل إزالة تماثيل رموز للعنصرية أو تحسين خطاب البيض نحو السود فلا تكفي مطلقاً. إنّ تحوّل الانتفاضة إلى جهد منظم ومستمر لإرغام السلطة القائمة بتغيير شامل ليس بالأمر الهين، فلا بدّ ألا نقلل من قدرة هذه السلطة في تفتيت الانتفاضة وحرفها عن أهدافها الأساسية كما لا بدّ من الاستفادة من تجارب سابقة وتجنّب محاولات اختزال المسألة في إصلاح أجهزة الأمن وأوضاع السجون وعقاب قتلة جورج فلويد، على أهمية ذلك.

رابعاًإنّ وباء العنصرية قد أصاب الجميع بدرجات وأشكال مختلف. ولهذا فتجب علينا مواجهة العنصرية في كافة المجتمعات عن طريق الثقافة والمعرفة.

خامساًإنّ مشاهد العنف التي نراها والتي يكون ضحيتها السود الأميركيون هي نفسها التي نراها لعقود طويلة والتي يكون ضحيتها الفلسطينيون. لا نندهش فالوباء هو نفسه بل إنّ المدرّب الاسرائيلي يكون أحياناً هو نفسه مدرّب البوليس الأميركي. ولهذا لا بدّ من ربط الأحداث المنبثقة من الظاهرة نفسها.

سادساًيجب تسليط الأضواء على الجانب الطبقي في المسألة العنصرية فبعض قيادات السود الذين تحسنت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية بفضل حركة الحقوق المدنية، والنضال الطويل ضد العنصرية تتطابق مصالحهم مع السلطة ولا يكترثون في الواقع بأحوال عامة السود، فنجد بعضهم يتناغمون مع السلطة في اتباع أسلوب الاحتواء وإجهاض الغضب.

 *أستاذ الكيمياء الفيزيائية في جامعتي الإسكندرية وولاية ميشغان (سابقاً).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى