سلاح الإمبريالية الجديد
} لواء العريضي
لا شكّ أنّ مواضيع الماضي تطغى على جلسات سمرنا، نقارن ما كان سائداً في ذلك الماضي القريب أو البعيد بما يسود اليوم على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وفي المجمل نترحّم على الماضي ونأمل خيراً بالآتي. فالعالم ما انفكّ يتطوّر منذ صباح الإنسانية، لا بل منذ فجر التكوين. كذلك السياسة والحروب والاحتلال. كان يتمّ إخضاع الناس بالقوة، واليوم أصبحوا مُخضَعين طوعاً. في الماضي كنا نقاوم الإمبريالية واليوم نواجه أوجهها المتطوّرة من إمبريالية غير رسمية وغيرها.
في تعريفها، الامبريالية هي سياسة توسّعية تنتهجها الدول الكبرى فتُخضع الدول الضعيفة غالباً بالقوّة العسكرية، وتسيطر على سياستها واقتصادها، وتستهلك خيراتها وتسرق مواردها. ويندرج الاحتلال والاستعمار تحت مفهوم الامبريالية وتطوّره. رغم قلّة الأمثلة اليوم على الامبريالية المباشرة، فقد كانت سائدة حتى الحرب العالمية الثانية وأخذت تتقلّص بمفهومها العسكري عند إعطاء الدول المُسْتَعْمَرة استقلالها المزعوم تحضيراً للمرحلة الثانية.
منذ سبعينات القرن الماضي، تبدّلت الامبريالية المعهودة بمفهومٍ قديمٍ متجدّد يتلاءم مع هذا الزمان، هو الامبريالية غير الرسمية. نعرّفها بأنها هيمنة دولة قوية على دولٍ أخرى اقتصادياً وثقافياً دون المساس بسيادتها بشكل مباشر، فتبقى الدولة المُستعمَرة «مستقلة» رسمياً لكنها لا إرادياً تابعة لسياسة ذلك المحتلّ. فهو المتحكّم بلقمة عيش أبنائها، والدولة تعلم أنّ معارضة سياسته قد تدفع ثمنها بتجويع شعبها وقيامه عليها.
بعد عقودٍ من الاستهلاك وقلّة الصناعة بتنا مدمنين على السلع الغربية. فاقتبسنا طريقة حياة الغرب وباتت منتوجاته جزء أساسي من حياتنا. واليوم يفكّر البعض بالتضحية بآخر درعٍ يحمينا للإبقاء على نمط الحياة الغربية. وكأنهم سمكاً قد أكل الطعم! ملقين اللوم على من قرّر المواجهة لا على الغاصب. هذا هو الاستعمار الجديد يطلّ علينا بوجهه الأكثر تطوّراً من الإمبريالية غير الرسمية. فمنذ التقدّم العسكري المذهل للمقاومة، أخذ عدوّنا مسار تأليب المجتمع، ضدّ كلّ من يريد مقاومته، أكثر جدّيةً عبر طرقٍ جديدة.
ما عادوا اليوم بحاجة الحروب وأسلحة الدمار الشامل، فالمحتلّ يتغلغل في المجتمعات «سلميّاً» عن طريق الاقتصاد على صعيد الدولة، والإعلام على الصعيد الفردي، بالتسويق للفكر «الأوحد الأصحّ» الذي يحكم العالم «بعدل». فبَدَّلوا المثل العليا وسوّقوا لأفكارٍ غريبةٍ تأخذ وقتاً طويلاً لتفهّمها في المجتمعات «المحافظة»، والانفتاح السريع عليها قد يودي بمستقبل شباب كامل يصرف اهتمامه عن بناء ما تمّ هدمه منذ عشرات السنين ليستنفذ طاقته في أفكار لا تبني وطنه ولا تحميه ولا تزيده تقدّماً كالسلام الشامل وعبودية المادّة والمثلية الجنسية ومعاداة الساميّة… فلنسأل رجلاً ستّينيّاً اليوم من كان مثله الأعلى في أيّام مراهقته ونقارنه بالمثل الأعلى لأولادنا اليوم!
سلاح الغرب الجديد هو الإعلام الموجّه. كان نجمه التلفاز حتى التسعينات، ثم تراجع أمام الانترنت. واليوم تعلو وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الترفيهية مثل «Netflix» وشبيهاته فوق كلّ أسلحة الدمار التي تزرع الأفكار المشبوهة.
ليس في هذا الكلام دعوة لمقاطعتها بل لفهمها وتحديد مفعولها واستشفاف ما هو مفيدٌ منها واستخدامها للمعرفة، وفي المقابل التشبّث بما نملك من قيمٍ حميدة، فلا نغيّر سلوكنا وفقها.
تعود الدول ذات السياسات الامبريالية علينا كلّ مرّة بسلاحٍ جديدٍ فتّاك. وسلاحهم اليوم هو أكثر تعقيداً وصلابةً من أسلحتهم القديمة. كانوا يستعملون الطائرات والدبابات لقتلنا، وكنا ندفن شهداءنا ونمضي، ومجتمعنا يبقى ملتحماً. أمّا اليوم فيرسلون لنا الأفكار المدمِّرة في شتّى الوسائل الرقمية المتاحة، وفي المقابل يرسمون خططاً لإقشال الدولة وإفلاسها وفرض عقوبات مثل «قيصر» عليها، فتأتي النتيجة كردّ فعل شعبي «طبيعي» على شاكلة «الحق في العيش» تهشّم نسيج المجتمع وتقضي على آخر فرصة للإصلاح والمواجهة! لكن يبقى دائماً الرهان على وعينا.