أولى

حالة الانكشاف

 

 

 سعادة مصطفى ارشيد _

تمر العلاقات الدولية عالمياً في حال متغيّرة، تفرضها من جانب قوانين التغير والحركة والتطور دائمة الدوران، ومن جانب آخر عوامل مساعدة منها جائحة كورونا التي تجاوز عدد ضحاياها نصف المليون نفس بشرية، وعدد المصابين بالفيروس قد قفز عن حاجز الاثني عشر مليوناً، والأعداد في تزايد مستمر. ومع دخول الجائحة طوراً ثانياً اعتبرته منظمة الصحة العالمية أكثر ضراوة، نلاحظ أنها تجاوزت في عدوانها الإنسان وسلامته لتصيب وتعطل الدورة الاقتصادية من صناعة وتجارة وزراعة في طول العالم وعرضه؛ الأمر الذي قاد إلى معدلات بطالة مرتفعة حتى في المجتمعات الصناعية النشطة وكساد اقتصادي وانهيار في أسعار النفط ومعظم السلع وأثر بدوره على الرعاية الاجتماعيّة والنظم الصحيّة اللاهثة وراء الجائحة.

دفع كل ذلك دول العالم للانكفاء إلى دواخلها، وإلى البحث عن حلول لما تعانيه بشكل منفرد، والتفكير بأساليب الحماية والاكتفاء الداخلي (الذاتي) وإعادة التفكير باتفاقيات التجارة الحرة وضريبة القيمة المضافة، وظهر الوهن على المنظمات العابرة للقومية، كالاتحاد الأوروبي الذي فشل في معالجة الجائحة كاتحاد وترك إيطاليا وإسبانيا واليونان تعالج كل منها جراحها بشكل منفرد فيما رأت ألمانيا أن أولوياتها ألمانية بحتة، نتيجة لذلك أخذت دول الاتحاد تتلمس طرقها القومية القديمة بمعزل عن القوميات الشريكة لها في الاتحاد الأوروبي. فبدأت الدولة الإيطالية طريق العودة إلى إيطاليتها وإسبانيا إلى إسبانيتها وكذلك ألمانيا بمعزل عن المشروع الإقليمي.

وإذا كان العالم يمرّ في هذا المخاض المأزوم، فإن العالم العربي يمرّ بما هو أدهى وأمرّ. حاله غير مسبوقة من السيولة وأبواب أمن قومي مشرّعة لا حارس لها، في المشرق العربي استطالت الأزمة السورية، وإن كانت ملامح نهايتها بادية، إلا أن الأعداء لا زال لديهم من الأوراق ما يطيل في عمرها. ولبنان يترنّح تحت ضغط سعر صرف الليرة مقابل الدولار، والدولة تعاقب القاضي الفاضل الذي أنفذ القانون بالطلب من سفيرة الولايات المتحدة عدم التدخل في شؤونه الداخلية. العراق يعيش حالة تقسيم بادية للعيان، والأردن يعاني من التغول الإسرائيلي بالضفة الغربية. الأمر الذي يمثل تهديداً وجودياً له، فيما تكشف تصريحات رئيس وزراء أسبق عما يدور في العقل السياسي لبعض جماعة الحكم، ولمن رسم شكل الأردن في مرحلة ما بعد عام 1994 (اتفاقية وادي عربة)، وفلسطين التي تعارض رسمياً قرار نتنياهو بضمّ ثلث الضفة الغربية، إلا أنها لا تملك من الآليات وأدوات الضغط ما يحول دون ذلك، هذا وإن تفاءل البعض من المؤتمر الصحافي المشترك لقياديين من فتح وحماس، إلا أن المؤتمر الصحافي لم يتطرق للبحث في الآليات أو في إنهاء حالة الانقسام البشع أو الاتفاق على برنامج حد أدنى واقتصر على مجاملات متبادلة. وعملية الضمّ من شأنها تقطيع ما تبقى من الضفة الغربية إلى ثلاثة معازل منفصلة بالواقع الاستيطاني الذي سيتم ضمة ويحول دون قيام دولة أو شبه دولة في الضفة الغربية. اليمن يصمد ويقاوم بأكلاف عالية، فيما الكورونا والفساد يضربان كل هذه المجتمعات.

الأوضاع في غرب العالم العربي تفوق خطورة وتهافت الأوضاع في مشرقه على صعوبتها، فحالة السيولة وأبواب الأمن القومي المشرّعة، خاصة في ليبيا ومصر والسودان. ليبيا اليوم مسرح وساحة مفتوحة للفرنسيين والأتراك فيما تلعب مصر دوراً ملحقاً بالفرنسيين بدلاً من أن يكون العكس، وأصبحت ليبيا مصدر خطر على مصر من خاصرتها الغربية التي لم تكن عبر تاريخ مصر الطويل تمثل تهديداً لأمنها القومي، فلم يحدث أن غُزيت مصر من الغرب إلا مرة واحدة على يد المعز لدين الله الفاطمي.

طيلة عقود تحاشت مصر الاهتمام بمسائل الأمن القومي، وهي التي رسمت أولى ملامح نظريات الجغرافية السياسية والاستراتيجية وضرورات الأمن القومي بالاشتراك الصدامي مع اتحاد الدول الكنعانية وذلك في القرن الخامس عشر قبل الميلاد في معركة مجدو الشهيرة بقيادة مملكتي قادش ومجدو، حيث رأى الفرعون المصري أن أمن بلاده يبدأ من مرج إبن عامر، فيما رأى التحالف الكنعاني أن أمن اتحادهم يبدأ من غرب سيناء. تطوّرت نظرية الأمن القومي المصري لاحقاً لتضيف عنصراً ثانياً وهو نهر النيل وفيضانه ومنابعه. هذه الرؤية الاستراتيجية سكنت العقل السياسي المصري وعقل كل مَن توالى على حكم مصر منذ تحتمس الثالث حتى عهد الرئيس الأسبق أنور السادات.

منذ تسلم السادات حكم مصر بدأ العمل على إخراج مصر من عالمها العربي، وقد أخذت ملامح هذا الدور تتبدّى خلال حرب تشرين، بمحادثات فك الارتباط بمعزل عن دمشق، ثم ما لبث أن أخذ شكله الصريح عام 1977 في زيارة السادات المشؤومة للقدس وتوقيع اتفاقية كامب دافيد في العام التالي، ثم الترويج لذلك الانقلاب على الاستراتيجيا بالتنظير أن العالم العربي كان عبئاً على مصر التي تستطيع بالتخفف منه الانطلاق في عوالم السوق الرأسمالي والتطور والازدهار وتحقيق الرخاء، ولم تلتفت تلك التنظيرات إلى أن علاقة مصر مع العالم العربي تكاملية يحتاج فيها كل منهما أن يكون ظهيراً للآخر. هذه المدرسة أنتجت ورثة السادات، ومنهم مَن أيّد بحماس تدمير العراق واحتلاله، وتواطأ على الجناح الشرقي للأمن القومي في سورية، وافتعل معارك لا لزوم لها حول منطقة حلايب مع السودان، ولم يلتفتولا زاللخطورة الاعتراف بدولة جنوب السودان التي يمرّ من أراضيها النيل الأبيض، واستمر بعلاقات عدائية مع إثيوبيا التي ينبع من هضبتها النيل الأزرق، ولم يستقبل من أمره ما استدبر لإيقاف مشروع سد النهضة أو للتفاهم مع إثيوبيا بالدبلوماسية أو بغيرها طيلة عقد من الزمن كانت الشركات الإسرائيلية والأميركية تنفذ خلاله مشروع بناء ذلك السد، ولم تستشعر أجهزة أمنه أن خمس مؤسسات مالية مصرية قد استثمرت في السندات الإثيوبية التي موّلت بناء السد الذي قد يحرم مصر من سرّ وجودها، وقد قيل قديماً أن مصر هبة النيل.

في شرق مصر تم إهمال الخاصرة الشرقية التي حددها تحتمس الثالث وسار على هديها كل من أتى من بعده، فلم يتم ايلاء شبه جزيرة سيناء أي اهتمام وتمّ استثناؤها من مشاريع التنمية والرعاية الحكومية، هذا الإهمال والتجاهل الذي هدف إلى إفراغها من كثير من سكانها إرضاء لتل أبيب عاد على مصر بنتائج عكسية إذ خلق بيئة رطبة ومناسبة لجراثيم الإرهاب والتطرف، في حين انصبّ اهتمام الدولة في مرحلة ما قبل الربيع الزائف على بناء حاجز تحت الأرض يحول دون إمداد غزة بحاجاتها الأساسية، وفي العهد الحالي تم إغراق الأنفاق الغزيّة بمياه البحر وإقامة جدار مكهرب فوق الأرض، وكأن المهم أمن «إسرائيل» لا أمن مصر القومي.

مصر التي نحبّ في خطر، وهذا الخطر لا يصيبها منفردة وإنما بالشراكة مع كامل المحيط العربي، مصر لم يهزمها الغرباء والأعداء ولا الجهات الخارجية أو المؤامرات الأجنبية، وإنما هزمها مَن قدّم أولوية البقاء في الحكم على حسابات الاستراتيجية والأمن القومي، ومن جعل الأمن القومي ضحيّة لأمن النظام.

لك الله يا مصر.

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في جنينفلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى