ثقافة وفنون

وجوه «روتي ديامانتين» المتعددة… ترى بعيونها!


 طلال مرتضى*

على الرغم من ان ظهور «الصورة الرقمية» المثيرة، شكلت خطرًا حقيقيًا على رسامي البورتريه وتداول بعض قارئي الحراك الفني التصويري عن إلغاء دور رسام البورتريه واحالته إلى المعاش.

وبالفعل لو قاربنا هذا بثورة تشكيل الصورة الرقمية مع المقولة لوجدنا بانها تقارب الحقيقة المطلقة، لكن لا يستطيع احد ان يوكد اندثار هذا الفن، فثمة اعمال لم تستطع ثورات التقانة الحديثة الغاءها، على الرغم من سهولة التداول والتركيب الرقمي، والدليل الثابت الذي لا يقبل قصة الاقصاء هذه

على سبيل المثال، مكانة الموناليزا المتوجِة لكل اللوحات او غرنيكا بيكاسو.

وان كنت ذكرت مثالاً كلاسيكياً من أعمال خالدة

إلا أنه ثمة امراة تتسلل ببطء وتعمل بداب على شق طريق حضورها، في محاولة منها لحجز مكان لها في الصف الامامي، مع التأكد من وجود الموهبة الفاعلة، الا انه صعب، وصعب للغاية لشدة حضور الاسماء اللامعة والمحمولة من قبل الاعلام وذلك لأبعاد غير التي نحن بصدد الحديث عنها..

الفنانة التشكيلية الالمانية النمساوية (Rote Diamantinالتي ولدت في سكسونيا، وجدت ذاتها في ضفة «الظل» مع ان ضوء فيينا، عاصمة النور غامر لكل التجارب، وهنا لا بدّ من القول، ان تبديل ثيمات الاشياء على نحو مبهج امر صعب للغاية، فمثلاً، ان الظل هو الجانب المقابل للضوء، وهو الجهة التي يحاول كل مخلوق الخروج منها للوقوف تحت سلطة الضوء وهي حالة فطرية لدى البشر وغيرهم، لكن السوال الاهم في هذا الإيجاز، لم لم نحاول على الاقل ان نعبث بتكوين هذا الظل لتبديل ملامحه وادخاله دائرة الضوء المنشودة؟

الفنانة روتي، بالفعل ذهبت بهذا المنحى من خلال الوجوه «البورتريهات» التي قامت برسمها، حيث اشتغلت وبكل ممكناتها الفنية المتاحة على ابراز مكامن الضوء في تلك الوجوه، وعلى الرغم من صعوبة الامر ولسبب مهم، انها كانت تستعمل في شغلها الجرافيت، اقلام الرصاص وطباشير الباستيل والفحم، والبني الداكن، وهذه المواد طبيعتها الجينية معتمة..

وهنا وفي هذه العملية تحديدا نستطيع ان نلقي القبض على الفنان الحقيقي، الذي يملك الموهبة اولاً والمعرفة تالياً..

استطاعت الفنانة روتي من خلال الوجوه المتعددة التي قامت برسمها، خلق بور ضوئية لافتة، وتلك فعالية تحسب لها، وهي إخراج البور الضوئية من انعكاسات الالوان ذات الاطياف الظلالية «التي لا تختزن لطاقة الضوء»، ساهمت هذه الفعالية بتوسيع مدارك اللوحة في عين قارئها، واشباع حواسه بالتفاصيل الصغيرة التي نتجاهلها في اغلب الاحيان، لكون العين القارئة تذهب مباشرة لقياس حدة انعكاس الضوء في الفضاء الكلي للوحة من دون الوقوف على مصدره، فالمصدر هنا ذاتي، فالفنانة لم تعتمد على ضوء الطبيعة او غيره لتبيان ملامح الوجوه التي قامت برسمها، بل قامت بتوليد طاقات ضوئية ارتدادية من مواد تفتقر لهذه الثيمة وذلك عبر قياس بعض الزوايا وتدويرها بشكل احترافي ولافت.

على سبيل المثال، نقطة ما او تكويرة الخد او انحدار الذقن وغيرها من النقاط التي يمكن الاشتغال عليها لتوليد الطاقة الضوئية، وهنا يمكننا الاتكاء على منحيين في اللوحة، وهما تبادليان، الاول كما ذكرت النقاط البارزة في الوجه المرسوم والثاني تفعيل الفضاء الدائري للوحة من خلال ترك خطوط ايهامية يمكن للضوء ان يتخلل وينبعث منها..

ثمة طاقة كامنة في تلك الوجوه، يمكن لقارئ العمل الفني الوقوف على مكامنها من خلال استنباط قرائي دقيق، مبني على حالة القياس، قياس زاوية وحدة النظر لتلك الوجوه ومحور تمركزها داخل الاطار ومن ثم التعاريج او التضاريس التي تبين او تعكس الكثير من ملامح الشخصية المرسومة، الهدوء، العصبية وغيرها، وهذا بالتاكيد اشياء يمكن الوقوف على تفاصيلها بكثب لكنها تتفاوت بين قارئ وآخر ويرد هذا ايضا لمرجعية القارئ بعينه والثقافة التي تكونت منها مرجعيته..

يداب اي رسام «بورتريه» ان يجسد الحقيقة الكلية للوجه المرسوم وتبيان خصائص هذا الوجه وعلاماته الفارقة والفارغة، وهذا وبالفعل ما برع به الكثير من الرسامين منذ بداية النهضة الفنية، والتاريخ الفني حافل بوجوه مرسومة معروفة وتحمل تواقيع لاعلام الرسم العالمي من دافنشي، توماس سولي، الى بيكاسو وفان كوخ وكلود مونيه وغيرهم..

قد يتساءل البعض، لماذا عرجت الى هذه النقطة بعينها والتي استذكرت فيها مبدع «غرنيكا» او «موناليزا» او «ليلة النجوم» او ميثولوجيات وحكايات مايكل انجلو الدينية، وهنا اقول ان كل ما ذكرته بالفعل من امثلة، اسست لحضور فني طويل الامد، لكنها بقيت تدور في محور الفنان الذي وقع العمل او الوجه المرسوم، لكن الحكاية مختلفة كلياً في تجربة الفنانة  (Rote Diamantin)، والاختلاف عمن سبقها هو انها ولكل من يعرفها وبشكل شخصي ومقرّب قد تركت في كل عمل جزء منها، بل اوهبت هذا الجزء الخاص للوجه المرسوم، فالعامل المشترك بين كل وجه واخر هو العيون، (عيون روتي الانسانة). فمهما اختلفت دلالة نظرة الوجه المرسوم عن سواه فإنه بالنهاية ينظر نحو الحياة بعيونها.

سيرة

مدربة تربوية ودرست في الاكاديمية التقنية للتربية الاجتماعية.

رسومات بورتريه ورسومات عارية ذات طابع عاطفي.

المعارض: عدة معارض فردية وجماعية.

* كاتب عربي/ فيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى