أخيرة

لبنان… الفقر والغلاء

} غدير حمية

يُقاس مستوى تطوّر أيّ «دكانة» أو منشأة أو مؤسسة أو بلد بالأرقام والنسب التي تكون كفيلة بتحديد مؤشر الربح والخسارة لتبني على الشيء مقتضاه، وتستطيع تالياً معرفة وجهة عملها، فإما تعدّل في الخطط الاستراتيجيّة وإما تستمرّ في تحقيق النمو والتطوّر والمكاسب. أما من ناحية الأداء، فإنه يُقاس بمستوى العنصر البشريّ، فالشرط الأول لتحقيق التميّز والتطوّر هو الاهتمام بنوعيّة وجودة العاملين من خلال تدريبهم وتنميتهم وإشراكهم في العمل ودعمهم وفهم متطلباتهم وتحفيزهم ليحققوا إنتاجيّة.

هذه المقدّمة اقتصادية بحتة، وهي تمهيد لأيّ مخطط استراتيجي يسعى إلى الربح والاستمرار. بمعنى أصحّ وبعد كلّ هذا الطرح، يتبيّن لنا أنّ أهمّ مقوّمات النجاح على مستوى الفرد أو الجماعة هو الإحصاء، بشقيه الرقمي والبشري، المسؤول عن تقديم الحقائق بشكل واضح ودقيق للتنبؤ بمسار عمل الأحداث في المستقبل ووضع السياسيات المناسبة.

في لبنان، الصورة مختلفة تماماً. تمّ التجاوز عن وزارة التخطيط والاستغناء عن التكامل والتعاون بين الوزارات عملاً بمبدأ «كلّ يغني على ليلاه»، فالليل يستر العيوب كما السرقات والهدر والمحاصصات والصفقات. وغابت عن مؤسّساته دوائر التنمية البشرية. كما أستعيض عن مبدأ «الرجل المناسب في المكان المناسب» بكلمة واحدة هي «المحسوبية» التي تغلق كلّ المنافذ بوجه من كدّ وتعب ليصل إلى مركز مهم يناسب قدراته التعليمية وإمكاناته المهنية، وتؤهله فقط لتعليق شهاداته لوحات زيتية على جدران منزله وملازمة سريره بانتظار تأشيرة الهروب. والأنكى من كلّ ذلك هو الغياب شبه الكلي لدائرة الإحصاء المسؤولة عن معرفة أعداد العاملين وأولئك الراقدين في سرائرهم. نحن موافقون على وجود البطالة ولكن هلا تتنازلون وتحدّدون لنا كم يبلغ عدد العاطلين عن العمل؟ لا حياة لمن تنادي.. لبنان يا أهل الخير قائم بقدرة قادر.

ما قبل الزمن الكورونيّ، عانى لبنان من مرارة البطالة وحدة وطأتها.. «تعبنا» عبارة طالما ردّدها الشباب اللبناني «العاطل عن العمل». أما ما بعد زمن كورونا فالواقع أمرّ، ذلك أن الشباب استقال من منصب ترديد العبارات أو القيام بالانتفاضات وما شابه ذلك وعقد العزم الذي لا رجعة فيه على المغادرة، لأنّ الوطن ليس الأرض التي خلقت فيها وترعرعت، إنما تلك تكفل لك أدنى حقوقك المفقودة في «الجزيرة اللبنانية».

طبعاً سبق ولفتنا إلى أنّ الإحصاء «غير متوفر حالياً، ولا يمكنك المحاولة مرة أخرى فأنت في لبنان»، لذا لا تتوفر أي أرقام رسمية حول أعداد العاطلين عن العمل ونسب البطالة، بالرغم من الأهمية القصوى لهذا الأمر كمؤشر اقتصادي واجتماعي. في ما عدا إعلان وزارة العمل مؤخراً أن نسبة البطالة بلغت أكثر من 30%، وأنه لم يعد للأجور أي قيمة فعلية، خصوصاً بعد الارتفاع غير المسبوق والمفجع لسعر صرف الليرة والانهيار المالي والاقتصادي. وتوالت بعد هذه الكلمات سلسلة الوعود الجميلة من مختلف المسؤولين، إلا أن هذا البلد المنهك لم يعُد يحتمل الاعتكاز على الخطابات والشعارات المثاليّة وترداد عبارات الطموحات الواهية، إذ تشبّع اللبنانيون حتى التقيّؤ من المصطلحات الرنانة التي تبدأ بـ»سوف» و»نعدكم» و»سنعمل جاهدين» و»رؤيتنا المستقبلية» و»سنصبّ جهودنا» وتنتهي بالعدم. المطلوب اليوم هو التنفيذ.. التنفيذ فقط، بعدما بات اللبنانيون يرزحون تحت صيغة ثلاثيّة لا شريك لها هي «بطالةفقرغلاء».

بات لبنان اليوم يحتلّ المراتب الأولى من ناحية التأثير السلبي للوضع الاقتصادي على الهرم السكاني والطبقات الاجتماعية. هرم شباب لبنان وكبروا قبل أوانهم بسرعة لافتة وموجعة. في هذا البلد الصغير لم تعد فئة الشباب قائمة، شاخوا وهم في ربيع عمرهم. سُرقت أحلامهم وأهدافهم وتطلعاتهم وانطفأ بريق أعينهم وجاعوا.. نعم جاعوا، وما بعد الجوع أمران: إما الهجرة أو الانتحار.. جاعوا، بعدما تدهورت قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الذي تصرّ الدولة على اعتماده، وارتفعت أسعار السلع بجنون، وانعدمت الوظائف، وصرفت معظم المؤسسات عمالها تعسفاً، واكتسح الفقر كلّ الأماكن إلى أن اضمحلت أخيراً الطبقة الوسطى التي كانت في ما مضى شرياناً رئيسيّاً ومحرّكاً أولاً لعجلة الاقتصاد.

المضحك المبكي المذلّ أننا عند كتابة أيّ مقال أو نص تحليلي أو خاطرة أو حتى شعر، نبتدئ الكلام بما هو إيجابي، وننصفه بـ «لكن» يليها كلمة «لبنان».. اعتدنا أن يكون هذا البلد دائماً في المواقع السلبية الأولى.. يا لغرابة هذا البلد الذي لا تعبير آخر لاستمراره سوى أنه لا يزال قائماً بمعجزة إلهية.. الله غفور رحيم لكنه أيضاً شديد العقاب.. لذلك فالآتي أعظم وأفجع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى