الوطن

«المحروسة» على مشارف حربين متزامنتين فهل تفعلها؟

 

} د. وفيق إبراهيم

«المحروسة» هي مصر التي تجد نفسها بسبب سياسات دولتها وسط مشروع حربين متزامنتين، الأولى تمسّ أمن شعبها المائي، وبالتالي الاقتصادي والسياسي والوطني، فيما تهدّد الثانية أمنها الوطني القومي انطلاقاً من صراع الأمم على ليبيا ومياه البحر الأبيض المتوسط اللذين يشكلان جزءاً من الدور التاريخي لـ»أمّ الدنيا»، كما يصفها شعبها، خصوصاً في جوارها الأفريقيالعربي الليبي وسواحلها المائية الأوسع من نوعها على شواطئ المتوسط.

لماذا احتمالات الحرب قوية؟

توقفت المفاوضات بين مصر والسودان مع إثيوبيا حول مفاعيل سدّ النهضة برعاية أفريقية وأميركية. فتبين أن الأحباش استغلوا هذه المفاوضات وابتدأوا تخزين مياه نهر النيل فيه، قبل الاتفاق على الكميات ومواعيد التعبئة التي لا تؤثر على كميات المياه الذاهبة إلى السودان ومصر.

هذا يعني أن إثيوبيا مصرّة على تخزين المياه حسب احتياجاتها وليس بمنطق مراعاة الأمن المائي الشعبي لكل من السودان ومصر.

لماذا الخلاف على سد النهضة؟ ولماذا الحرب ممكنة؟

يشكل نهر النيل «حياة مصر» لأن 90 في المئة من شعبها يرتوون منه ويسقي عشرة ملايين مزارع مصري أراضيهم منها معيلين أسراً تتجاوز الأربعين مليوناً، لذلك لم يبالغ «أبو التاريخ» هيرودوت عندما قال إن «مصر هبة النيل» ولولا النيل لكانت «مصر صحراء جرداء»، بما يعني أن لا مياه لديها إلا منه مع بعض الأمطار السطحية التي تهطل أحياناً في مناطقها الساحلية.

أما بالنسبة للسودان فلديه الكثير من الموارد المائية بالإضافة إلى فرع النيل الأزرق الوارد إليه من إثيوبيا والمتدحرج نحو مصر.

لجهة إثيوبيا فهي بلد غني جداً بمصادر مياه متنوّعة من ثلوج جبالها والأمطار وعشرات الأنهار الأخرى، إلا أن رئيسها «آبي أحمد» الحالم بتجديد ولايته الرئاسية أصرّ على بناء سد النهضة عند فرع النيل في بلاده بكلفة 4 مليارات دولار لتخزين المياه وتوليد نحو 6450 ميغاواط كهرباء وري مئات آلاف الدونمات الزراعية.

الآن وبعد 5 سنوات على مفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا برعاية أفريقيةأميركية، تبين أن الإثيوبيين باشروا بملء السد من دون اتفاق مسبق.

هكذا تجد مصر والسودان نفسيهما أمام حائط مسدود لناحية الاتفاق بالتفاوض، ما دفع وزير الموارد المائية المصري إلى التذكير بأن مئة مليون رأس من الماشية الأثيوبية تستهلك من مياه النيل أكثر من شعبي مصر والسودان معاً.

للتوضيح، فإن غالبية المصريين تعتمد على نهر النيل بشكل كامل مقابل عشرين في المئة من السودانيين. كما أن حصة استهلاك المصري من المياه لا تزيد عن 350 ليتراً سنوياً للشرب والغسل والأعمال الأخرى مقابل 3000 ليتر للمواطن الغربي.

هذه الأهميات تجعل من الحرب آخر الحلول الممكنة نظراً لعاملين: الارتباط البنيوي المصري التاريخي بالنيل والعناد الأثيوبي الذي بنى السد وابتدأ بالتخزين وهو يفاوض السيسي ويعلله بالحلول.

فإذاً عن مشروع الحرب الثانية؟

إنّها بالطبع ليبيا جارة مصر المتقاطعة معها اجتماعياً واستراتيجياً وبالانتماء القومي العربي.

فهناك اشتباك محموم على ثروات ليبيا وموقعها المطلّ على المتوسط بين قوى داخلية تنقسم بين دولة السراج المدعوم من الإخوان المسلمين وبين دولة حفتر المدعوم من ألوية عسكرية نظاميّة وبعض القبائل.

هذان الفريقان الليبيان يجذبان تركيا التي تساند السراج عسكريّاً بشكل مباشر وسياسياً بأنواع مختلفة، ويختبئ خلفها الأميركيون الذين يقدّمون أنفسهم وسطاء بين الفريقين، لكنهم يُعربون علناً عن انزعاجهم من التدخل الروسي المؤيد للمشير حفتر.

هناك إذاً تركيا وروسيا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا واليونان ومصر والجزائر، أطراف تلعب في الميدان الليبي بشكل علني وأعينها على ثروات هذه الدولة من النفط والغاز مع الرغبة في السيطرة على سواحلها المطلة على البحر الأبيض المتوسط الذي يختزن احتياطات كبيرة من هذه الثروات.

لذلك يجد السيسي بلاده أمام حرب أعلنتها تركيا على حفتر المؤيّد لمصر وتستعدّ فيها لمهاجمة محور سرت المليء بآبار النفط والغاز والمؤدي إلى قسم آخر منها.

فكيف تستطيع «أم الدنيا» أن تدع تركيا حليفة منافسيها من الإخوان التقدم شرقاً وجنوباً في أراضي ليبيا لتصل إلى حدود مصر وأن تصمت دولة السيسي ولا تفعل شيئاً؟ فهذا عدوان تركي يستعمل أيديولوجيا الإخوان المسلمين للسيطرة على بلد عربي مجاور لها ويسرق ثرواته مؤسساً لظروف مناسبة لإعادة الدولة العثمانية بعقلية 2020.

أما في الخفاء فهناك دفع أميركي للسيسي كي يتحرّك عسكرياً في مناطق حفتر الليبية ليضع حداً للتدخل الروسي الكبير المؤيد لحفتر.

بذلك يُمسك الأميركيون بليبيا عبر السراج والأتراك من الغرب وبواسطة السيسي وحفتر في الجنوب والشرق، فيساهمون برعاية تقسيم ليبيا إلى كانتونات متعدّدة بهيمنة أميركية كاملة تطرد الروسوالأوروبيين وكل من تسوّل له أطماعه التقدّم وفي الجيوبوليتيك الأميركي.

فهل يفعلها السيسي ويخوض حربين أفريقيتين في آن معاً؟

يبدو أن الأميركيين يعدونه بحلول لمواعيد ملء سد النهضة الأثيوبي بما يتناسب مع تزويد المصريين بمياه دائمة، لكنهم يطلبون وقتاً لإقناع حكام إثيوبيا، بما يكشف أن ذهاب الإثيوبيين نحو ملء السد من دون اتفاق مسبق مع المصريين والسودانيين ليس إلا وسيلة ضغط أميركية لجذب مصر نحو تدخل عسكري في ليبيا لإنهاء النفوذ الروسيّ فقط.

لا شك في أن من حق مصر والجزائر كبلدين عربيين مجاورين لليبيا ويرتبط أمنهما بها أن تتدخلا لمنع السيطرة على موارد ليبيا وإجهاض مشاريع تقسيمها.

لكن التدخل لمصلحة الأميركيين والروس لن يكون إلا من الأعمال الداعمة للاستعمار الأميركي لليبيا على حساب مصالح مصر والجزائر والليبيين أيضاً.

وهكذا يتبين أن مصائب مصر ثلاث متزامنة:

سد النهضة على النيل الخالد، والصراع الأممي على ليبيا، ونظام السيسي الذي يتبين يومياً أنه ماهر في فنون التمثيل وإلقاء النكات أكثر من إدارة بلد ينهشه الفقر والفساد والارتماء في أحضان الأميركيين والخليجيين مع تحالف عميق مع الكيان الإسرائيلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى