مقالات وآراء

إن كيدَهنَّ عظيمٌ وإنَّ قيدَهنّ لأعظمُ

} هنادي لوباني*

ارتفع عدد الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال منذ إعلان ترامب بحق القدس. 58 من حرائر فلسطين يقبعن في دهاليز مظلمة ويتعرّضن لأقذر أساليب التعذيب، من الركل والضرب إلى وضعيّات شبح مختلفة. تقضي الأسيرات فترات اعتقالهن في ظروف معيشية وصحية كارثية وتحت إجراءات تعسفية، يستغل فيها الاحتلال الخصوصية الجندرية للأسيرات في الضغط والتنكيل بهنّ بالتفتيش العاري والتحرّش الجسدي والانتهاكات الجنسيّة، فيما سجلت حالات اغتصاب عدة خلال فترة التحقيق. يهاجم الجنود الذكور الزنازين مدجّجين بالسلاح لإرهاب الأسيرات وتعنيفهن بالشتم والأذى والتهديد. وبهدف إذلالهنّ، يتعمّد السجان عدم توفير الاحتياجات النسائية في فترات الدورة الشهريّة ومراحل الحمل والولادة، حيث شهدت السجون حالات ولادة عدة في ظروف غير إنسانيّة.

 وتتعرّض الأسيرات للتعذيب النفسيّ بحرمانهن من الاحتفال بالمناسبات الوطنية والدينية والشخصية، وتحريم التواصل مع ذويهن ومنع الزيارات عنهنّ بذرائع أمنيّة أو بعزلهن انفرادياً لشهور طويلة. تزداد المعاناة عند الأسيرة الأم التي تُحرَم من لمس أولادها، فيما الأسيراتُ من غزة محرومات أصلاً من الزيارة. لا تنتهي المعاناة مع نهاية الأسر بل تستمر ما بعده بمضايقات في كل مناحي الحياة.

هذا التصعيد يستدعي وقفة تفكيكٍ وفهمٍ.. تصف لنا أسيرة محررة شعورها بأنها غادرت سجناً صغيراً لحبس أكبر، سماؤه مفتوحة وقضبانه نقاط تفتيش وحواجز وجدار عازل وطرق التفافية وتصاريح واقتحام للمنازل وحظر للتجوّل. تسعى الصهيونية إلى تغيير واقع الصراع وكسر التفوق الديمغرافي الفلسطيني لمصلحة المستوطنين بتحويل الضفة إلى حبوس صغيرة ومنعزلة تكابد تقييدات فاشية على الحركة والحياة الأسريّة والصحة والتعليم والعمل. في السنوات الأخيرة، ضاعفت تقنيات الهيكلة والرقابة البانوبتية، كما وصفها ميشال فوكو، سيادة الاحتلال وساديّته في ادارة شؤون الموت الفلسطيني وحياته وصولاً إلى أصغر تفصيل عبر إخضاعه للمراقبة المستمرة وبشتى أساليب الترويع والمداهمة والتعذيب والتدمير.

هناك تحوّل، يرصده لنا الأسير وليد دقة، من مرحلة الاحتلال المباشر، الذي يمثل «الحداثة الصلبة»، إلى المرحلة «السائلة» والاحتلال «الشمولي المابعد الحداثي»، الذي يموضع الشخصية الفلسطينية خارج النص، يتنكّر لحقوقها ويطمس تاريخها ويشغلها في انقسامات تفصلها عن قيمها التحرريّة، ويتلاعب بوعيها ويفكك مكوّناتها الجامعة بهدف ترويضها وإنتاجها كأفراد عراة تماماً ومطواعين للاحتلال. تتغير الحدود وتتآكل المساحة الفاصلة بين العام والخاص، المنزل والشارع، لتصبح أكثر الأمور اعتيادية، مثل الذهاب إلى الأقارب أو الدراسة أو العمل أو المستشفى أو التسوّق، مشحونة وشاقة ومهينة. وفي ظل غياب المشروع التحرّري وسلطة تمارس سيادتها الديكتاتورية على الشعب مقابل كاريكاتوريتها مع الاحتلال، يعيش الشعب الفلسطيني داخل منظومة البوصلة الفردية، الـGPS  الخاص، كل يبحث عن يقينه ويواجه مصيره بقواه الفردية.

يرتدّ مجاز الـ GPS الخاص عندما نبحث عن المرأة والتأثيرات المتفاوتة على جسدها الذي تنظمه علاقات معقدة ومتشابكة بين ذكوريّة السلطة الاحتلاليّة والسلطة الأبويّة. ترزح المرأة الفلسطينيّة تحت ثقل اضطهادين يجعلها تتنقل بشكل استراتيجي وحذر على سطح وعر محفوف بالمخاطر.. درب جلجلة يتحوّل عليه جسدها إلى خط أمامي وميدان صراع.

هذه التقاطعات الذكورية التي تحدث على الجسد وعبره ومن خلاله تسعى للتحكم بالمرأة بشكل مطلق وشامل وزجّها داخل دائرة قمع واضطهاد وعنف مغلقة، كما داخل إطار تقعيديّ يحطّ من شأنها ويحتقر مكانتها ويقزم بطولاتها ويدهور حقوقها ويحور الاهتمام بوضعها وقضاياها إلى شأن ثانويّ أو عائق على المشروع الوطنيّ. في مقابل قوافل الشهيدات وصمود الأسيرات، هناك آمال الجمالي ومدلين جرابعة ونورة السعيد وإسراء غريب وروزان مقبل وغيرهن من ضحايا العنف الذكوريّ تحت ذرائع الشرف والعرض والعار والقوامة ونصوص وعادات وتقاليد رجعيّة بالية.

من المفارقات أن تآكل المساحة الفاصلة بين العام والخاص وتقاطعات الذكوريّة الاحتلاليّة مع الذكورية الفلسطينية، وفّر بالذات شروط تمكين المرأة في البحث بلا كلل عن خطوط إفلات وخلخلة في المسارات. ذاك أن الجسد، كما يكتب بيير بورديو، حين يصبح مكشوفاً وفي خطر في العالم، في مواجهة الأذى، المعاناة، الموت أحيانًا، فهو ملزم بأخذ العالم على محمل الجد.

ولا شيء أكثر خطورة من امرأة تفننت في رسم مشاهد بطوليّة في كل المفاصل التاريخية الفلسطينية: في الثورات والانتفاضات؛ في مقدّمة صفوف المقاتلين والمثقفين؛ وراء القضبان أسيرة، وفي البيوت تبني اقتصاداً مقاوماً وتربي أجيالاً من المناضلين والفدائيين والأسرى والشهداء. وقفة مع مشاهد الحب الصامتة في فيلم يد إلهيّة لإيليا سليمان: حبيبان، شاب من الـ 1948 وشابة من الضفة، يلتقيان داخل سيارة على حواجز الذل والعذاب والقهر. تتشابك أيديهما، فيرتدّ الكلام ويُطيّر الحبيب من نافذته بالوناً عليه صورة لعرفات يفلت من طلقات الجنود ليجول في سماء القدس. مقابل الجسد الذكوري الذي يتفنن سياسة السلام أو اللاعنف والمشوّه بالترهل والقوقعة والتمزق، تتقدم الحبيبة نحو الحاجز أمام دهشة الجنود فتنعقد ألسنتهم وتتجمّد تجهيزاتهم ولا يحرّكون ساكناً. تعبر الحدود، وتتفجر من ورائها الآليات وبروج المراقبة والأسلاك الشائكة والجدران العازلة. في طريقها إلى القدس، تتحوّل إلى نينجا متمرّسة في القتال اللاتقليديّ؛ تتحدّى الجنود وتنتصر عليهم. تنهال عليها الطلقات التي تتحول إلى هالة كالنجوم الاثنتي عشرة التي تكلل رأس العذراء.

وما زلن المجدليّات يتفنن الدفاع عن الوطن والمواطنة بأنماط مقاومة غيريّة: فرادًى أو في مجموعات صغيرة تواجه إشكاليات متشابهة وتتلمس الحدود والتوجّهات والجهات والمداخل والمخارج من كنتونات الظلم وبيوت الظلام.. تحرّكات لا تعرف اتجاهاً محدداً.. ضروب مواجهة عشوائيّة لا تقتصر على مجال بعينه.. عصف ذهني وذكاء وتكتيك يموج باللاوعي، وبلا تخطيط نظري مسبق، تتحوّل معه الأجساد إلى نصوص حيّة تتثاقف فيما بينها فتكثف اللاوعي الجماعي وتعيد إنتاج الروابط والقيم الوطنية الجامعة.. طاقة تعدديّة وقوى خلاقة توسّع حدود الهوية في إطار لا ينفي آخرها المتعدّد فيها، فتقترب الماركسيّة من الإسلاميّة والمحجبة من العلمانيّة، ما يجعل العمل المشترك سلوكاً ممكناً وواقعاً ملموساً.. اكتشافات لطرق وطرائق الاضطهاد والتحايل على مفارقاتهم وإبراز تناقضاتهم وكسر هيبتهم وتعطيل زمكانهم.. مبادرات مستقلّة تنطلق وتلتقي وتجمع قواها في شبكة جذمورية لا تنتج أفعالاً جامدة ولا تتبع يقينيات جاهزة ومعلبة، بل صيرورة تنتج فعليتها وفعاليتها في التشابك المستمر مع أحشاء الواقع وثناياه وحركته المتغيّرة باستمرار.. مواجهات، بوصف جيل دولوز، في الوسط تفترض حرف العطف، لا تبدأ ولا تنتهي، قادرة على التدفق وإعادة التشكّل والتشكيل.. اختراقات لكل أشكال القهر والظلم والتهميش والتغييب وابتلاعهم في غمار جسدها.

حيث يوجد احتلال، توجد مقاومة. سمع العدو دمدمة المعركة، بتوصيف فوكو، التي تسري في أعماق كل حركة يوميّة، كل نشاط عادي وتتجسّد فيه السيولة بين الخاص والعام، الفردي والجماعي، الاجتماعي والسياسي، ممارسات وأفعال ثوريّة تقاوم المرأة من خلالها عنف الذكورية الفلسطينية وفاشية السلطة الاحتلاليّة. يصعّد الاحتلال استهداف النساء بالاعتقال لأن العدو أدرك أن كيد المرأة الفلسطينية عظيم. جسد أمام جسد وجيل بعد جيل، تتفنن المرأة صناعة التاريخ رافضة عقلية الضحيّة ودورها، فمتى سيدرك أولاد الأرض الواحدة أن قيدها أعظم؟ أن قضية أرض وشعب من حق وحلم لن تكتمل ولن تتكلل بالتحرير والتحرر ما لم تشعل في الخيال والوعي الفلسطيني الجماعي، في الفكرة والفكر والنهج، ثورة وعودة بتاء التأنيث.

* باحثة وكاتبة فلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى