مقالات وآراء

المقاربات الأميركية تجاه سورية… دمشق وموسكو والعناوين الكبيرة

} أمجد إسماعيل الآغا

وسط المواقف والتعقيدات الجيوسياسية في سورية، تتأرجح كتلة من المواجهات السياسية المحتملة بين موسكو وواشنطن، فالصراع الاستراتيجي المُحتدم بين القوى الفاعلة في سورية، يأتي ضمن إطار البحث عن مكامن القوة، لبناء تحالفات وتفاهمات تتجاوز في أبعادها الاصطفافات الظرفية التي أفرزتها نتائج الميدان السوري.

ففي غمرة التجاذبات السياسية المؤطرة للملف السوري، يعود من جديد التنافس الأميركي الروسي بشكله السياسي، بعد أن وصل قبل مُدة حدّ التصادم العسكري، لجهة الدوريات الروسية الأميركية في شمال شرق سورية. ففي جغرافية الشمال السوري، تكثر المصالح والامتيازات، كما تكثر الرغبات بحصد جُملة من المكاسب السياسية، التي تبدأ بهندسة الجغرافية وتطويعها بما يخدم الأجندة الاستراتيجية، ولا تنتهي بالاستحواذ على أوراق القوة العسكرية لصرفها في التفاهمات السياسية.

حقيقة الواقع في شمال شرق سورية، يُمكن تلخيصها وإيجازها، عبر سعي القوى الكبرى إلى تأكيد حالة الوجود، بصرف النظر عن شرعية الوجود. هذا الواقع ينطبق على التواجد الأميركي وحالة فرض المعطيات والقفز على أوراق القوة التي تمتلكها دمشق وموسكو، على السواء، لا سيما أنّ المنظور الأميركي بات مؤطراً في عدم الاعتماد على الأداة الكردية بشكل كامل، خاصة أنّ هذه الأداة باتت ممنوعة من الصرف، في ظلّ توجه العشائر إلى بناء كيان عسكري مواجه للخطط الأميركية، وبات من الضروري أميركياً شحذ الهمم الكردية بالمزيد من الأسلحة والوعود ببناء كيان كردي مستقل.

التوجهات الأميركية السابقة ترجمها المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، عبر زيارة سريعة حملت في طياتها بُعدين أحدهما سياسي تصادمي موجه ضدّ روسيا، والثاني عسكري بمرتكزات تعمل في سياق منع عودة «داعش»، بحسب الادعاءات الأميركية، وفي جانب آخر وضع خطوط حمراء يُمنع تجاوزها من قبل الجيش السوري وكذا العشائر.

أما البعدّ السياسي، فمن الواضح أنّ زيارة جيفري جاءت بعد زيارة الوفد الروسي إلى دمشق، الأمر الذي يشي بأن هناك التفافاً على مُخرجات الزيارة الروسية بكافة أبعادها. في جانب آخر، تحاول الإدارة الأميركية اللعب على التوافقات الروسية الكردية التي انطلقت من موسكو، إبان الاتفاق بين مجلس سورية الديمقراطي وحزب الإرادة الشعبية برئاسة قدري جميل، تضاف إلى ذلك جُزئية حاولت واشنطن، ولا تزال، القيام بها، تتعلق بتوحيد كافة الأطياف الكردية تحت مظلة سياسية واحدة، في غاية مضمونها، وهدفها الوحيد إجبار دمشق على النظر إلى الكرد من زاوية القبول بالإدارة الذاتية، كمنهج ومطلب لا بد من تحقيقه، ليتم بموجبه التعاطي مع دمشق.

أما على الصعيد العسكري، فيستمر التحشيد العسكري الأميركي في شمال شرق سورية، وذلك ضمن سياق المقتضيات التي يفرضها المناخ العسكري في رقعة تمتلك من الحساسية الاستراتيجية والبعد الإقليمي، ما يجعلها ورقة ذهبية لا يُمكن التخلي عن مكاسبها. وعليه فإنّ الضباط الأميركيين الذين رافقوا جيفري خلال زيارته، يُمثلون العنصر العسكري الضاغط على دمشق وموسكو، إضافة إلى الرسالة الأميركية التي مرّرتها واشنطن من خلال الزيارة، والتي تتمحور حول استمرار الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات.

يمكن قراءة النوايا الأميركية في سورية بعد زيارة جيمس جيفري وفق معطيين:

الأول: محاولة الإدارة الأميركية منع دمشق من النهوض اقتصاديًا، خاصة بعد زيارة الوفد الروسي وما حملته من مشاريع اقتصادية، الأمر الذي تعمل واشنطن، في إطاره، للضغط في اتجاهات متعددة، بُغية خلق العوائق السياسية والعسكرية والاقتصادية التي ستؤثر على مسار النهوض السوري، لا سيما أنّ دمشق حسمت الكثير من الملفات المرتبطة بأبجديات الصراع فيها، بينما رسمت واشنطن في مقابل ذلك، خطوطاً سياسية بعدما فقدت الكثير من أوراق قوتها العسكرية، من أجل إبقاء المسوغات التي تُتيح لها إطالة أمد تواجدها على الأراضي السورية.

المعطى الثاني هو أنّ واشنطن تدرك أن الجزيرة السورية وما تُمثله من بُعد اقتصادي، تُوفر للدولة السورية حالة استقرار وتعاف، حيث حقول النفط وأهم الزراعات الاستراتيجية، وضمن هذا الإطار فإنّ عودة السيادة السورية على كامل الجزيرة السورية، لا يُناسب الأهداف الأميركية بالمستويات كافة، وعليه طالب جيفري صراحة الإدارة الذاتية بعدم بيع القمح والنفط للدولة السورية، دون ذلك ستُفرض العقوبات الأميركية على مناطق الإدارة الذاتية، وربما تُطلق يد تركيا من جديد ضدها.

تنطلق المقاربات الأميركية الجديدة من محدّدات لطالما سوّقتها واشنطن، فالمصطلحات الأميركية كعودة «داعش» وإيران هي فوبيا باتت مُستهلكة حدّ الغثيان، ولعلّ التواجد الأميركي المُكثف يخدم هذه الأجندة ويسوقها جيداً لدى شركاء واشنطن الإقليميين والدوليين، لتأتي زيارة جيفري في توقيت لم ولن يخدم خطوات الأداة الكردية، بقدر ما هي رسالة لدمشق وموسكو والعشائر المنتفضة بوجه الكرد، وعليه فإنّ أيّ تصعيد من قبل دمشق والعشائر سيقابله تصعيد أميركي، فالمفردات السياسية التي مُرّرت عبر زيارة جيفري، جُلها تتخذ من البُعد العسكري منطلقاً لها.

ضمن هذا الإطار، صدرت تأكيدات أميركية على ضرورة الاحتفاظ بالوجود العسكري الضاغط على أيّ حلّ سياسي، أما التبرير الأميركي فانطلق من مبدأ الضرورة التي تُوجب دعم الحلفاء على الأرض ومنع عودة الجماعات الإرهابية. هذه التبريرات ترجمتها موسكو على أنها تهديد لوحدة سورية، كما أنها تُمثل عائقاً حقيقياً أمام أيّ حلّ سياسي، فالخلاف الروسي الأميركي في سورية، قد لا يُنذر بصراع عسكري، لكن الخلاف بين البلدين ينطلق من ترتيبات الحضور العسكري فقط، والاستحواذ على القيمة الاستراتيجية للموقع الجغرافي للدولة السورية.

جُلّ ما سبق، يؤكد أنّ مستقبل الحلّ السياسي في سورية سينطلق من مُرتكزات روسية وأميركية، مع تشاركية تؤسس لما هو أبعد من مضامين سوتشي وأستانا، لكن ضمن ذلك، وبمعزل عن اعتراف ترامب بنيّته اغتيال الرئيس السوري بشار الأسد، يبدو أنّ واشنطن لم تعد تعارض بقاء الرئيس الأسد في السلطة، هذا يُمكن ترجمته، وبشكل واضح، على أنه تلاق أميركي مع التوجهات الروسية في سورية، وهذا يضعنا أمام مشهد جديد يُمكن البناء عليه مُستقبلاً في عناوين الجزيرة السورية وإدلب، والحلّ السياسي في سورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى