مقالات وآراء

قرار ترشيد الدعم اتُخذ فعلياً وهذا ما قد ينتظرنا من آليات مقترحة

د. فادي علي قانصو*

لا شكّ في أنّ مسار ترشيد أو تخفيض نسب الدعم على المواد الأساسية من المحروقات والأدوية والقمح من قبل مصرف لبنان قد انطلق فعلياً، ولم يبقَ أمام اللبنانيين سوى انتظار الآليات المقترحة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في ظلّ إشارات على تدرّج مرتقب في عملية رفع جزئي للدعم في المرحلة الأولى، أيّ تحفيض نسب الدعم، وصولاً إلى رفع كلّي للدعم في مرحلة لاحقة، خصوصاً إذا بقي الوضع الراهن على ما هو عليه في الأسابيع المقبلة، أيّ لا حكومة تواكب الإصلاحات الهيكلية ولا اتفاق مع صندوق النقد الدولي وبالتالي لا مساعدات مالية من الخارج، على أن تكون آلية الترشيد مترافقة مع توزيع بطاقات دعم على الأسر المحتاجة، والتي يفترض أن يُحدَّد عددها قريباً.

هذا الموضوع كان في صلب الاجتماع المالي الأخير في قصر بعبدا والذي ترأّسه رئيس الجمهورية ميشال عون وحضره رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير المالية غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حيث تمّ وضع حجر الأساس لمرحلة تخفيف الدعم عن المواد الأساسية، لا سيّما في ظلّ ما تبقّى من احتياطيات أجنبية سائلة تقدّر بحوالي مليار دولار قبل الوصول إلى عتبة الاحتياطي الإلزامي والذي يبلغ 17.5 مليار دولار، وهو ما يكفي لتمويل حاجات لبنان لأقلّ من شهرين على أبعد تقدير. حينئذٍ، سيضطر المصرف المركزي إلى التوقّف عن دعم كلّ المواد الأساسية في حال لم يُعاد النظر في آلية الدعم الحالية لا سيّما في ظلّ عملية التهريب المُمنهجة. تجدر الإشارة إلى أنّ احتياجات لبنان التمويلية بالعملات الأجنبية والتي يدعمها مصرف لبنان تُقدّر بحوالي 10 مليار دولار سنوياً وهي موزّعة على الشكل التالي: مشتقات نفطية بقيمة 5 مليار دولار (تتضمّن الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان والمحروقات من مازوت وبنزين وغاز)، أدوية ومستحضرات طبيّة بقيمة 1.3 مليار دولار، قمح بقيمة 150 مليون دولار، السلة الغذائية بقيمة 2.5 مليار (على أساس تكلفة شهرية بقيمة 210 مليون دولار)، بالإضافة إلى تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع والذي يقدّر بحوالي 1.3 مليار دولار (على أساس تكلفة يومية بقيمة 5 ملايين دولار).

في ظلّ هذه المؤشرات المقلقة، اتفق المجتمعون على ضرورة تمديد فترة الدعم لأطول فترة ممكنة إلى حين تشكيل حكومة تكون قادرة على مواكبة الإصلاحات المطلوبة، مع البدء في ترشيد هذا الدعم على المواد الأساسية وتحديداً المشتقات النفطية التي تُقدّر فاتورة دعمها من جانب مصرف لبنان بحوالي 5 مليارات دولار سنوياً (موزّعة ما بين الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة مليار دولار، والباقي ما بين المازوت بنسبة 60% وهو بمعظمه للمولّدات الكهربائية وبين البنزين والغاز بنسبة 40%). من هنا، فقد تمّ الاتفاق على ضرورة تخفيض نسبة الدعم على المحروقات، مع أرجحية تخفيضها في مرحلة أولى من 90% إلى 70% – 75%، وهو ما سيكون كفيلاً برفع سعر صفيحة البنزين إلى حوالي 40 ألف ليرة والمحتسب على أساس سعر برميل النفط العالمي (وهو عند أدنى مستوياته حالياً) وعلى أساس سعر الصرف الحالي لليرة مقابل الدولار، أيّ بحدود 8,000 ليرة للدولار. ولكن هل سيبقى سعر الصرف عند مستوياته الحالية إذا انخفضت نسبة الدعم؟ في الواقع، إنّ تخفيض نسبة الدعم على المشتقات النفطية إلى 75% على سبيل المثال، يعني الحاجة إلى حوالي مليار دولار سنوياً، وهو ما قد يعبّد الطريق أمام مسارين، ارتفاع في سعر الدولار في السوق السوداء بسبب الزيادة الكبيرة في الطلب على العملة الخضراء من جهة، وشحّ في المحروقات من الأسواق في ظلّ أرجحية عدم قدرة السوق السوداء على تأمين كامل هذا المبلغ من جهة أخرى، وهو ما بدأ يتلمّسه المواطن فعلياً أمام محطات الوقود قبل أيّ ترشيد للدعم على المحروقات.

من هنا، فإنّ مسار توزيع بطاقات تموينية على الأسر المحتاجة، شبيهة بالبطاقة الذكية في سورية، قد انطلق فعلياً لتكون البديل عن الدعم المباشر والشامل في المرحلة القريبة والتي تسمح لحاملها بشراء المواد الأساسية على أساس سعر الصرف الرسمي 1,515 ليرة للدولار. غير أنّ النقاش يدور اليوم حول أعداد هذه الأسر التي ترزح تحت خط الفقر، خاصةً ما بين الرقم المتداول والصادر عن البنك الدولي، أيّ 200 ألف أسرة، وبين رقم وزارة الاقتصاد، أيّ 365 ألف أسرة. من هنا، فقد تمّ الاتفاق على ضرورة إعداد دراسة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المستجدّ مع تجاوز نسبة الفقر عتبة الـ50% من عدد السكان في لبنان. وعليه، وفور تحديد عدد الأسر المحتاجة التي يُفترض أن تستفيد من بطاقات الدعم، سيباشر مصرف لبنان بالتعاون مع المصارف التجارية بإصدار هذه البطاقات الشبيهة بالبطاقات المصرفية، مع تقديرات غير رسمية بأن تتراوح قيمة المبالغ الشهرية المقدّمة ما بين 300 ألف ليرة و500 ألف ليرة لكلّ أسرة وحسب عدد أفرادها. مع الإشارة إلى أنّ هذه البطاقات لن يكون بالإمكان الاستفادة منها للسحوبات النقدية، لأنها ستعتمد على العملة الرقمية التي لا يمكن استخدامها إلا لشراء المواد المدعومة. ولكن تبرز المخاوف هنا في أن تواجه آلية توزيع البطاقات صعوبات تطبيقية على الأرض في ظلّ غيابٍ للإحصاءات الرسمية عن التعداد البشري على كامل مساحة لبنان الجغرافية من جهة، وفي ظلّ ثقافة المحسوبيات والمحاصصات التي قد تُعيق وصول البطاقات التموينية لمن يستحق فعلياً من جهة أخرى.

في المقابل، يبدو أنّ الدعم على القمح من قبل مصرف لبنان لن يُمسّ به نظراً للرمزية التي يمثّلها رغيف الخبز، ناهيك عن أنّ قيمة الدعم على القمح لا تتجاوز 150 مليون دولار سنوياً. أما في ما يتعلّق بدعم الدواء والمقدّر بقيمة 1.3 مليار دولار سنوياً، فإن التوجّه العام ذاهب في المرحلة الأولى نحو بعض الترشيد، مع غربلة مطلوبة في لائحة الأدوية المدعومة. عليه، تمّ التواصل مع وزارة الصحة للبحث في لائحة الأدوية التي يُفترض الاستمرار في دعمها، وفي لائحة الأدوية التي يمكن استبدالها بأدوية «جنيريك» بهدف تخفيف الفاتورة الدوائية، مقابل إلغاء أو تخفيف الدعم عن مستحضرات ومشتقّات طبية لا تدخل ضمن الأولويات. غير أنّ ما بداً يحصل اليوم من تخزين للأدوية سواء من قبل شركات الأدوية (طمعاً ببعض المكاسب بعد رفع الدعم) أو حتى من قبل المواطنين (خوفاً من انقطاع محتمل للأدوية أو من ارتفاع مرتقب في الأسعار) قد خلق بلا أدنى شكّ أزمة شحّ مقلقة في كميّات الأدوية المتوافرة في السوق، وهو ما بدأ يثير علامات استفهام عديدة حول ما قد تؤول إليه الأمور من تداعيات مقلقة على فاتورة الدواء أو على ميزانيات الصناديق الضامنة في أعقاب أيّ عملية للترشيد أو لرفع الدعم عن الدواء.

من جهة أخرى، كثُرت التساؤلات في الآونة الأخيرة حول إمكانية لجوء الدولة اللبنانية إلى رهن أو بيع جزء من احتياطي الذهب، خاصّةً أن لبنان يحتلّ المركز 14 وفق احتياطي الذهب حول العالم والمقدّر بحوالي 286 طن أو ما يعادل 18 مليار دولار وفق مجلس الذهب العالمي. في الواقع، وفي ظلّ أجواء سياسية ضبابية وعدم وجود رؤية اقتصادية ومالية واضحة لمستقبل البلاد، وفي سياق وضع غير سليم في المالية العامة وآلية غير واضحة المعالم لمعالجة الأزمة المالية الراهنة لا سيّما لجهة تحديد دقيق لحجم الخسائر المالية، فإنّ طرح موضوع رهن أو بيع جزء من احتياطي الذهب سيعني استخدام آخر ما لدينا من احتياطيات لهدرها على غرار الاحتياطيات السائلة بالعملات الأجنبية، وبالتالي كما نفذت السيولة سينفذ الذهب. عليه، لا يجوز التفريط بالذهب قبل وضع سياسة مالية واضحة في إطار توافق على تشكيل حكومة مُنتجة وقادرة على إطلاق برنامج إصلاحي ينخرط فيه صندوق النقد الدولي، من شأنه أن يعبّد الطريق أمام لبنان للخروج من أعتى أزمة اقتصادية نشهدها على الإطلاق.

*خبير وباحث في شؤون الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى