ثقافة وفنون

انتقام بمفعول رجعيّ!

} أحمد أصفهاني*

حملت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 6 كانون الأول 2020 خبراً يقول إن عائلة الروائي والكاتب المتخصص بأدب الأطفال روالد دال (Roald Dahl) نشرت على موقعها الإلكتروني اعتذاراً يتنصل من، ويدين آراءه «المعادية للسامية». ويبدي البيان، الذي وقعته أيضاً الشركة المسؤولة عن تسويق أعماله الأدبية، «الاعتذار العميق للأذى الذي سببته تصريحات دال في مقابلتين أجراهما سنة 1983 وسنة 1990»! والعبارة التي أثارت ضجة كبرى وردت في المقابلة الأولى: «توجد في الشخصية اليهوديّة نزعة تستثير العدوانيّة».

قد يسألني أحدهم: لماذا تُثقل على القراء الأعزاء بهذا الخبر تحديداً، بينما تنهمر علينا حالياً عشرات «الاعتذارات» المماثلة؟ مهلاًريثما أكشف أبعاد القصة كما عايشت جزءاً من تطوراتها سنة 1983!

توفي روالد دال سنة 1990، وهو من مواليد سنة 1916 في مقاطعة ويلز البريطانيّة لأبوين نروجيين مهاجرين. وتُعتبر أعماله الموجهة إلى الأطفال الأكثر مبيعاً في العالم، وتحوّلت غالبيتها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ومسرحيات حصدت نجاحات كبيرة. إذن دال ليس «نكرة» لا في عالم الأدب ولا في النقد الأدبيّ. ومن النقطة الثانية تبدأ علاقتي الجزئيّة بما حصل.

واسمحوا لي أن أعود بكم إلى صيف العام 1982 وقتما كانت آلة الدمار الإسرائيلية ترتكب الجريمة بعد الأخرى في لبنان. يومها أثارت صور الموت والمجازر والدمار ردود فعل غاضبة في أوروبا. كما صدرت عشرات الكتب عن الغزو الصهيونيّ، أحدها ركز على اللقطات المعبّرة وعنوانه «الله بكى» (God Cried). والعنوان مأخوذ من «طرفة» راجت في تلك الظروف الصعبة:

يُقال إن الرئيس الأميركي والرئيس السوفياتي وياسر عرفات صعدوا إلى السماء ووقفوا بحضرة الله الذي أعطاهم مجال سؤال واحد. سأله الأميركي: متى ينتصر النظام الرأسمالي؟ أجابه الله: بعد خمسين سنة. فبكى الأميركي. وسأله السوفياتي: متى تنتصر الشيوعيّة؟ أجابه الله: بعد مئة سنة. فبكى السوفياتي. ثم جاء دور عرفات ليسأل: متى نعود إلى فلسطين؟ فبكى الله!

كتب دال مراجعة نقدية قوية للكتاب استهدفت العدوان الإسرائيلي، نشرها في المجلة المتخصصة (The Literary Review) آب 1983. وكما هو متوقع، تحرّك اللوبي الصهيوني الذي أغضبه المقال خصوصاً العبارة التالية: «لم يحدث أبداً في تاريخ البشر أن جماعة من الناس تتحوّل بسرعة خارقة من كونها جماعة من الضحايا الجديرين بالشفقة إلى جماعة من القتلة البرابرة». ويمكنكم تصوّر حقد اللوبي الصهيوني على رجل بشهرة دال يكتب مثل هذا الكلام، وتنشره مجلة أدبية محترمة واسعة الانتشار.

أما قصتي أنا، فيحتويها المقال التالي الذي نشرتُه في جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية (كنت مدير التحرير فيها) بتاريخ 15 أيلول 1983:

الصوت الوحيد

كان المساء يدخل في ساعات الليل عندما بثت وكالات الأنباء في مكاتب «الشرق الأوسط» بلندن خبراً لفت نظري من بين مئات الأخبار التي تتوارد من جميع أنحاء العالم دونما انقطاع في مثل ذلك الوقت. يقول الخبر إن الدولة اليهودية منعت بث حلقات تلفزيونيّة كتبها أديب بريطاني يدعى روالد دال (…) بسبب نشره مقالاً في مجلة «المراجعة الأدبية» الإنكليزية يهاجم فيه الوحشيّة الصهيونيّة كما تمثلت أخيراً في غزو لبنان.

في اليوم التالي حصلتُ على رقم هاتف المجلة، واتصلت بها كي أحصل على العدد المعني لكونه عدداً سابقاً، وهدفي من ذلك أن أقرأ المقال، وبالتالي أن أعرف سبب «الغضب اليهودي» على هذا الأديب المشهور جداً في عالم الأدب الإنكليزي. ردّت عليّ، عند الطرف الآخر، شابة لطيفة سألتني فوراً عن غايتي. وما أن قلت لها العبارة التالية: «نشرتم في عدد آب مقالاً للأديب روالد دال…»، حتى قاطعتني بصوت مرعوب ومنفعل قائلة: «يا إلهيليس مرّة أخرى»!

هدأت روعها بقولي: «أرجو أن تفهمي أنني لست يهودياً». فعلقت بارتياح: «الحمد لله». تابعتُ حديثي موضحاً: «أنا أعمل في صحيفة عربية بلندن، وأودّ الحصول على المقال كي أعرف سبب «الغضب اليهودي» على المؤلف وعلى المجلة». ردّت بهدوء: «لو أنك تعرف ما الذي تعرّضنا له مؤخراً؟» أجبتها: «أنا أعرف. لا شك في أن اللوبي اليهودي أغرقكم بالرسائل والاتصالات الهاتفية المليئة بالشتائم والتهديدات والتهجّمات! على كل، نحن لسنا من هؤلاء». ردّت بنوع من العتاب: «هذا تغيير على أي حالإنك الصوت العربي الوحيد الذي اتصل بنا في هذا الشأن»!

انتهت المكالمة وجاءتني المجلة في اليوم التالي. لكن عبارة «إنك الصوت العربي الوحيد» ما زالت تملأ ذهني ووجداني: لماذا هناك آلاف الأصوات اليهودية، وليس لنا إلا صوت وحيد يتيم خافت؟ (…) بعض من مشكلتنا أننا اتكاليون، الواحد يعتمد على الآخر، والآخر ينتظر مبادرة من غيرهوهذا الغير يلقي المسؤولية على «المسؤولين»! وفي النهاية تضيع الطاسة لتصبح بيد اللوبي اليهودي الذي يصبّ بواسطتها على رؤوسنا «هبّة باردة وهبّة سخنة». (…)

بعضٌ من مشكلتنا أننا أغنياء بالأصوات الوحيدة المنفردة، على حساب الأصوات الموحّدة الهادفة.

 

*إعلامي وباحث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى