عربيات ودوليات

بايدن بين التحدّي والزوال

 

} سماهر الخطيب

يفتتح الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأميركيّة عاماً جديداً لن يكون أقلّ ضراوة من سابقه أمام جملة التحديات التي أوجدها سلفه الرافض حتى اليوم الاعتراف بالهزيمة مُصرّاً على القول بتزوير النتائج للانتخابات الرئاسية. إنما وبالرغم من ذلك سيدخل جو بايدن بوابة البيت الأبيض مع فريقه بإدارة تحمل أساليب جديدة لتطبيق الأهداف الأميركية.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الأهداف الأميركية والرؤيا الأميركية لا تتغيّر بتغيّر مديريها إنما ما يتغيّر ويميّز مديراً أميركياً عن سلفه هي أدواته التي يستخدمها لبلورة تلك الأهداف وجعلها أمراً واقعاً. وخاصة إذا ما علمنا أنّ السياسة الخارجية الأميركية هي لخدمة السياسة الداخلية وامتداد لها ضمن أيديولوجية مصلحية قائمة على ما صرّح به ترامب «أميركا أولاً»، إنما هناك مَن يراوغ على هذه العبارة ويجعلها ضمنيّة وهناك مَن يجعلها مثل ترامب بصريح العبارة ويجعل اللعب على المكشوف كما يُقال في اللهجة العامية..

والدليل على أنّ السياسة الأميركية لا تتغير بتغير مديرها هو إعلان الولايات المتحدة بالأمس عن «استراتيجية بحرية» لاستهداف ما أسمتها بـ»التحركات العدوانية» من قبل الصين وروسيا للسيطرة على الممرات المائية الدولية الرئيسيّة، والتي ستنفذ بشكل مشترك بين البحريّة ومشاة البحريّة وخفر السواحل.

وهي استراتيجية تعيدنا إلى نظرية «قلب العالم» والتي صاغها البريطاني هالفورد جون ماكندر مطلع القرن العشرين، وحملت في طياتها مفتاح السيطرة على العالم؛ السيطرة على قلبه، فكما الإنسان لا يستطيع العيش بلا قلب، كذلك العالم، ولكن الفرق أن السيطرة على القلب ستكون الأساس للسيطرة على كل دول العالم..

وشكّلت نظريته حينها البوصلة بالنسبة للسياسات الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت في عام 1918، وللاستراتيجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية.. وهذا ما يعنينا هنا أنّ الاستراتيجية الأميركية قائمة على السيطرة على قلب العالم بممراته البرية والبحرية وهو ما يفسر وجود حوالي 750 قاعدة عسكرية أميركية في أكثر من 130 دولة من دول العالم، تتنوّع مهامها المعلنة من القيام بالواجبات العسكرية المباشرة أو أعمال الدعم والإسناد اللوجستي أو القيام بعمليات «حفظ السلام» تحت مظلة الأمم المتحدة. وخلال العقدين الأخيرين، كسبت القوّات الأميركيّة قواعدَ عسكريّة أكثر من أيّ وقت مضى في التاريخ.

وجاء في التقرير السابق ذكره والذي حمل عنوان «أفضلية في البحر»: «قد أفسح التفاؤل بأن الصين وروسيا قد تصبحان قائدين مسؤولين يسهمان في الأمن العالمي، الطريق للاعتراف بأنهما منافسان قويان».

وأكد التقرير أن «الاستراتيجية تلزم الولايات المتحدة بالعمل مع الدول الحليفة والشريكة لإبراز قوتها في الممرات البحرية المتنازع عليها لردع الخصوم المحتملين».

وبالتالي طوّرت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيتها الجديدة وفق النظام العالمي الجديد لتصبح نظرية ماكندر كالتالي: «من يحكم الشرق الأوسط يهيمن على قلب الأرض. ومن يحكم قلب الأرض يسيطر على القارات الثلاث (آسياأفريقياأوروبا) ومَن يحكم القارات الثلاث يسيطر على العالم».

هذه هي باختصار استراتيجية أميركا للمرحلة الجديدة والتي تحمل تحديات معها لبلورتها مع دخول جو بايدن البيت الأبيض وسط تلك الملفات التي سيتركها دونالد ترامب والتي تفسّر أبعاد الصراع الأميركيالروسي ومناطق الارتطام، من جهة، والصراع الأميركيالصيني ومكامن القوة، من جهة أخرى، ويأتي الملف النووي الإيراني أحد أهم الملفات الشائكة في بلورة هذه الاستراتيجية من جهة ثالثة، لكونه يقع في منطقة الشرق الأوسط والذي لا يتوافق مع الاستراتيجية الأميركية «الجديدةالقديمة» وجود دولة إقليمية ذات وزن إقليمي خارج دائرة النفوذ الأميركي..

فكيف الحال مع بايدن سيكون إذا كان ما يهدّد هذه الاستراتيجية من دول متفرقة قد تحالفت ليشكل التحدّي الأكبر الذي سيُواجهه هو التّحالف الثّلاثي الروسي الصيني الإيراني، هذا التّحالف الجديد تعمّق بفعل مبالغة ترامب في فرض العقوبات الاقتصادية على أضلاعه الثلاثة، ما عزّز لُحمتها، ومكّنها، من امتصاص آثارها، وباتت إيران بسببه مُختلفة كُليّاً إذا ما حاول بايدن العودة للتّفاوض معها لصياغة اتّفاق نووي جديد.

فقد نجحت إيران والصين وروسيا (رغم العُقوبات)، خلال السّنوات الأربع التي حكم فيها الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، في توسيع نُفوذها، والحِفاظ على استقرارها داخلياً، والتّعاطي بقبضة حديديّة مع الكثير من الاحتجاجات التي حظيت بدعم أميركي وأوروبي لإنهاكها، وبالتالي إسقاطها..

فإيران لن تكون في موقع الضّعيف في أيّ مفاوضات مقبلة حول الاتّفاق النووي، بعد أن طوّرت ترسانة صاروخية ضخمة، وهي تتفاوض حالياً مع موسكو لشِراء طائرات «سو 30» ودبّابات «تي 90» ومنظومة صواريخ «إس 400» الدفاعيّة..

فيما رصدت الصين 400 مليار دولار للاستثمار في قطاع النفط والغاز والبتروكيماويات والموانئ والطرق البرية وبناء خط أنابيب يمتدّ إلى المحيط الهندي بعيداً عن مضيق هرمز، وتمويل وتجهيز موانئ تصدير إيرانيّة في تشاباهاز وجاسك، لتعزيز الثقة الإيرانية اقتصادياً وعسكرياً.

أما روسيا فظهرت قوتها بتصريحات بوتين بالأمس في مؤتمره الصحافي وتباهيه بقدرته على تطوير الأسلحة رداً على نشر الولايات المتحدة لنظام دفاع صاروخي عالمي، قائلاً، «يمكن لروسيا إما أن تبني أسلحة خاصة بها أو تصنع أسلحة متفوّقة». بالإضافة إلى تطوير علاقاته مع الدول العربية والغربية وتسجيل حضور روسيا كمدير للأزمات وضامن للقانون الدولي.

أما الخطر الأكبر الذي يُهدّد أميركا وضمناً إدارة بايدن وما يليها من إدارات، فيأتي من مساعي الدول الثلاث ومعها الهند ودول آسيوية وإفريقية ولاتينية أخرى لتأسيس نظام عالمي أمني جديد، مدعوم بعملة موحدة لإطاحة الدولار من عرشه العالمي.. كما ينعكس هذا الخطر على حلفاء أميركا والذي كان أولهم الحليف التركي الذي بدأ بالدوران نحو الشرق لتسجيل حضور وتمادٍ على السياسات الأميركية وتجاوز لخطوطها الحمراء..

ويأتي تنبؤ الخبير مايك داوودا كوف في حديث لصحيفة «فزغلياد» الروسيّة، بأن «أميركا ستبدأ في التّفكّك في غُضون عشرة أعوام»، تأكيداً لجملة التحديات التي يواجهها بايدن ومَن يليه وسط ما تتعرّض له الولايات المتحدة من تحديات خارجية تحدثنا عن بعضها.

ناهيك عن التحديات الداخلية التي ظهرت مع التظاهرات المناهضة للعنصرية من جهة والانقسامات حول نتيجة الانتخابات الرئاسية من جهة أخرى، لتبدو مهمة بايدن صعبة جداً في توحيد البلاد إن لم تكن مستحيلة رغم نياته الحسنة.

وكذلك لم تكن صفقات «التطبيع» جائزة ترضية لترامب أو الكيان الصهيوني، إنما هي في لبّ هذه الاستراتيجية وخدمة لها لتحقيق  المآرب الأميركية في الهيمنة على الشرق الأوسط عبر ربيبتها «الإسرائيلية»، وهو ما صرّحت به الإمارات سابقاً بضم «إسرائيل» إلى جامعة «الدول العربية» لتصبح جامعة «الشرق الأوسط»؛ وهي دعوة تحمل في طياتها أهداف «أميرصهيونية» للسيطرة على الشرق الأوسط..

في المحصلة التحديات كبيرة أمام بايدن إنما لا يمنع بأن تكون إدارته وما يليها بداية لنهاية هذا العقد الاجتماعي الذي أصبحت على أساسه تسمى الولايات المتحدة الأميركية، فدعوة الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي كانت في الثمانينيات وباتت اليوم واقعاً، ودعوات بعض الولايات للانفصال لا بدّ وأن تكون أمراً واقعاً مع ما تعانيه هذه الولايات من تحديات داخلية وخارجية..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى