مرويات قومية

الرفيق نسيب حمدان ومبدأ الثقة

لعلّ في ما نعرضه من معلومات متوفرة عن الرفيق نسيب حمدان، وكيف عالج سعاده موضوعه، مثل بالغ وبارز عن التوجه الديمقراطي لدى سعاده، كما عن تقديره لمشاعر رفقائه ورغبته في أن تدخل القناعات إلى وجدانهم وأعماقهم، فلا تنزل عليهم بالأوامر والتعليمات الصارمة، مع أنه كان يملكها، وكان يعرف أن رفقاءه سيطيعون وسينفذون بملء إرادتهم.

من المعروف أن سعاده كان أمضى القسم الأكبر من صيف عام 1932 في منطقة بيت مريبرمانارومية في ما سميّ لاحقاً بالمثلث الثقافي، عديد من الذين كان التقاهم سعاده، انتموا لاحقاً إلى الحزب، ومنهم من كان ضمن الخمسة عشر رفيقاً الأوائل، وهؤلاء تحدّث عنهم الأمين جبران جريج في الجزء الأول من مجلده من الجعبة، ونشرت عنهم(1).

*

في نهاية فصل الصيف، ونتيجة للتيار الثقافي الذي ولدته زيارات سعاده ولقاءاته، تداعى خمسة من هؤلاء المثقفين لفتح مدرسة نموذجية في التدريس وحسن التربية وإفساح الفرص للّذين لم تكن لهم قدرة مادية على تحصيل العلم. الخمسة هؤلاء كانوا: جورج عبد المسيح، خليل نصر أبو فاضل، جوزف رعد، نسيب حمدان وعبدو زينون. جميعهم انتموا إلى الحزب، والبعض منهم لعب دوراً بارزاً في النضال الحزبي.

هذه المدرسة عاشت سنة مدرسية واحدة، وكانت شغلت بناء مدرسة «الفرير» التي كان قد أخلاها الرهبان، وأصبحت تحت رعوية المطران مبارك الذي وافق على المشروع أعلاه.

في حزيران أحيت المدرسة حفلتها الختامية، وكان خطيبها الرفيق نسيب حمدان.

*

إذا تكلّمنا عن بدايات تأسيس فروع للحزب، نذكر قيام منفذية الشمال بِاسم منفذية طرابلس، وتضمّ الرفقاء القلائل الذين بدأوا ينتمون، وفيها مديرية الكورة التي تولاها الرفيق (الأمين لاحقاً) جبران جريج.

أمر مشابه حصل في «المثلث المتني الثقافي»، فقد أُنشئت منفذية المتن الأعلى وفيها مديرية بيت مري وبضعة أعضاء في برمانا ورومية، وإليها انضمّ الرفقاء الأوائل في المنطقة أمثال: نسيب حمدان، إلياس أبو فاضل، رشيد أبو فاضل، حسين عباس، جميل مقصد، يوسف تاج(2)، فارس منذر، إلياس وعبدو زينون، جورج حنكش(3)، يوسف شختورة، يوسف عسراوي، رزق الله نصر أبو فاضل.

لاحقاً، انقسمت المديرية المُنشأة إلى مديريّتَين، الأولى بعهدة مديرها الرفيق جوزف رعد(4)، والثانية تولّاها الرفيق رشيد أبو فاضل، فالرفيق إلياس أبو فاضل.

في شتاء العام 1935، برزت مشكلة الرفيق نسيب حمدان، إذ راح يتساءل عن مصير الاشتراكات التي يسدّدها الأعضاء في آخر كل شهر. فوراً دعا سعاده مجلس العمد لاجتماع طارئ في بيت الرفيق جورج عبد المسيح في بيت مري. عن هذا الاجتماع يقول الأمين عبدالله قبرصي في الجزء الثاني من «عبدالله قبرصي يتذكر».

كانت هذه زيارتي الأولى لآل عبد المسيح ولبلدة «بيت مري». بعد العشاء انفردنا مع سعاده في غرفة متروية، وكانت الجلسة مخصصة لبحث موضوع الرفيق نسيب حمدان.

عملية بناء النفوس كانت شاقة ودقيقة. كان سعاده حريصاً على إيفائها كل حقها، والانصباب على كل شاردة وواردة تتعلّق بالثقة والأخلاق، فلا ينفكّ عنها إلا وقد أخذت مجراها الطبيعي وبلغت الحد الأعلى من العناية والرعاية.

دُعي الرفيق نسيب حمدان إلى حضور الجلسة، وأخذ الزعيم يطرح عليه السؤال تلو الآخر:

سعاده: كم دفعت يا رفيق نسيب اشتراكات شهرية منذ دخولك الحزب؟

نسيب: مبلغ كذا.

سعاده: هل خطر لَك أن تحسب يوماً كم أنفق الحزب على مديرية بيت مري، نقليات وقرطاسية، وهل خطر ببالك أن تتصوّر كم يكلّف نشاط الحزب الإذاعي من أموال في الشام ولبنان؟

نسيب: سكوت.

واستمر الاستجواب لحظات على هذا المنوال. فلمّا انتهى سعاده، سأل إذا كان أحد العمد يرغب في طرح أي سؤال. لم يُطرح ولا أي سؤال من قِبل العمد.

هنا توجّه الزعيم إلى الرفيق نسيب حمدان ليلقنه، ويلقن الحاضرين درساً في الثقة وفي المنطق.

من ناحية المنطق، قال سعاده بأنّ العضو الذي يدفع خمسة أو عشرة قروش شهرياً، إذا كان قادراً، ليس له الحق بأن يسأل قيادته أين يذهب هذا المبلغ، إذا كان يشاهد بنفسه كم يُنفق الحزب لتأسيس فروع عديدة في مناطق نائية من الوطن السوري، بل كم ينفق على مديرية بيت مري نفسها، إذ يرسل لها من العاصمة المذيعين أو المسؤولين الإداريين الذين يشرفون على تنظيمها وإنمائها.

ثمّ أضاف: كيف يتعاقد العضو مع زعيم الحزب على تحقيق قضية قد تقتضيه عطاء دمه، ثم يسأل عن الخمسة أو عشرة قروش التي يقدّمها بدل اشتراك.

أين الثقة بالقيادة التي تحمل مسؤولية نهضة الأمة إذا كانت هذه الثقة تبدأ بالشك كيف تنفق هذه القيادة دريهمات قليلة يدفعها الأعضاء للمساهمة في ميزانية الحزب.

طبعاً، ليست هذه كلمات سعادة بالحرف، ولكن كانت هذه الروح التي تكلّم بها.

الرفيق نسيب حمدان بادر إلى الاعتذار والتراجع وبقي عاملاً في صفوفنا.

*

بدوره، يروي الرفيق نسيب حمدان هذه الواقعة إلى الأمين جبران جريج، فيقول: «كان جوابي مختصراً مفيداً. لي ملء الثقة بالزعيم وقيادته، وليس لي أيّ شيء آخر أقوله. أما في ما يختصّ بالناحية المالية، فلم يكن الموضوع موضوع ظنّوإنّ بعض الظنّ إثمبل جلّ ما في الأمر أنّ محادثة جرت بيني وبين جورج عبد المسيح عن المال ومصيره وكيفية صرفه، فإن كان في هذه المحادثة ما يسيء فإني أعتذر. لم تكن الإساءة قصدي، بل تساؤل عادي بريء».

جواباً على قول أحد الرفقاء إنّ المسألة لم تكن تستحق مجيء الزعيم والعمد خصيصاً لأجلها، قال سعاده: «كل ما يتعلّق بمبدأ الثقة لا يمكن اعتباره تافهاً، مهما كان حجمه».

المسألة ليست مسألة حجم. إنّ حزبنا نبنيه على مبدأ الثقة، فلا يجوز المرور مرور الكرام بمسألة تتعلّق بهذا المبدأ، صغيرة كانت أم كبيرة.

*

إلى ذلك، وبناءً لما يعرضه الأمين جبران جريج في مجلده الثاني «من الجعبة»، فإنّ رفقاء قاموا في العديد من المناطق بالتظاهر احتجاجاً على اعتقال سعاده للمرة الثانية. على سبيل المثال، توجهت مديريات الحزب في الكورة إلى سراي أميون للاحتجاج على اعتقال الزعيم وتطالب بالإفراج عنه، « أو باعتقالنا معه، لأننا نحن معه في النضال»، وقد نتج عن ذلك اعتقال الرفيقَين الدكتور عبدالله سعادة وشفيق غنطوس.

ويضيف الأمين جبران جريج (مجلد «من الجعبة») أن الرفيق نسيب حمدان رافق منفذ عام الكورة الرفيق جبران جريج في إشرافه على تحرّك الوفود الحزبية. كانت القيادة المركزية قد ألحقت الرفيق نسيب بالكورة بصفة مفتش لإبعاده عن منطقته، وذلك بسبب مذكرة توفيق كانت صدرت بحقه تتهمه بعلاقة له بحادثة تأديب الصحفيَّين عارف الغريب وإبراهيم حداد.

*

يفيد الأمين عبدالله قبرصي عن الرفيق نسيب حمدان، « أنه قومي اجتماعي ممتاز. في الجلسة التي دُعي إليها وقد أنّبه سعاده على هذا التشكيك، شاهدته بأم عيني يبكي معتذراً. إني أعتقد أنّ الرجل مات قومياً اجتماعياً «، ويضيف أنه كان موظفاً بالدولة.

 

هوامش:

مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

يوسف تاج: كما آنفاً.

جورج حنكش: كما آنفاً.

جوزف رعد: أعلم ان شقيقاً للامين اميل رعد كان رفيقاً وقد تحدثت عنه وعن الفاضلة عقيلته سناء الصلح التي كان لوالدتها ولها الحضور التربوي والاجتماعي الجيد في «برمانا».

فهل يكون هو نفسه الرفيق جوزف رعد، أم انه «جوزف رعد» آخر؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى