ثقافة وفنون

انتظار…

} عبد المجيد زراقط

تغيَّر كمال. وتغيَّر أكرم. تغيَّر الاثنان. غيَّرتهما سعديَّة التي تغيَّرت هي أيضاً.

عندما عاد كمال الى القرية، في هذا الصَّيف، صار يمشي محنيَّ الظهر، دائم التلفُّت، طويل الشعر مجعَّده، لحيته الطويلة اختلطت بشاربيه الكثيفين المتهدّلين. عيناه، عندما يلتفت، وينظر اليك متَّسعتان يقظتان، ويده اليمنى الى جانبه تقبض على مسدس محشوٍّ بالطَّلقات، وإصبعه دائماً على الزِّناد.

وأكرم، الفلاح الكبير، غادر القرية التي لم يكن يطيق الابتعاد عنها، واشترى شقَّةً في بيروت، وأقام فيها لا يغادرها في أيِّ وقتٍ من الأوقات.

غدا كمال، بعد تغيُّره، في هذا الصَّيف، موضوع أحاديث أبناء القرية، كما كان في الصيف الماضي موضوع هذه الأحاديث، وشتَّان ما بين الصَّيفين. في الصيف الماضي، جاء من بيروت، شابَّاً طويل القامة، رشيقها، يردُّ شعره الى الوراء، ويترك غرَّةً لامعةً في مقدِّمة رأسه، تنسدا أحياناً على جبينه، ويمشي متباهياً ببذلته الكحليَّة وربطة عنقه الزهريَّة، وهو يلاعب سلسلةً صفراء، لونها لون الذهب بين أصابعه المزيَّنة بخاتمين فضيَّين، يبرق في أحدهما حصُّ الفيروز السماوي، وفي الاَخر حصُّ العقيق البنِّي الملتهب.

جاء كمال من بيروت؛ حيث يعمل موظَّفاً، في مصرف كبير، كما يقول، ليمضي فرصته السنوية في قريته، ويتزوَّج، إن حظي بالفتاة التي تستأهله، كما كان يردِّد في مجلسه مع شباب القرية، في الخيمة التي نصبها وسط كرم العنب والتين الذي ضمنه من صاحبه الفلاح الكبير أكرم.

لم يكن وقت مجيئه الى القرية مصادفة، فقد اختار أن يأتي في موسم نضج التين والعنب، ليمضي أوقاتاً جميلة في هذا الموسم الذي تمتلئ فيه الكروم بالشباب والصبايا، وتُعقد علاقات، تنتهي، في كثير من الحالات، بالزواج، فتُقام الأعراس التي تدوم أيَّاماً عديدة. ومنذ وصل بادر الى «ضمان» الكرم، ونصَب خيمةً واسعة في وسطه، وجعَلها مجلس الشباب، منذ أن تميل الشمس عن وسط السماء الى اَخر الليل.

كانت كروم القرية متلاصقة، وكان صاحب الكرم المجاور للكرم الذي ضمنه كمال، أسعد النعمان، والد سعدية الجميلة. كانت سعديّة تأتي، عند العصر، هي ورفيقاتها، الى كرمهم، وكانت الفتيات يعقدن جلسات السمر والغناء. وجد كمال في هذه الجلسات، فرصة لينتقي صاحبة الحظِّ السعيد، فهو، كما يقول عن نفسه، جميل، و»فهلوي» وموظَّف، وبيروتي، ولا يعيبه شيء سوى أنه «فلتي»، أي ليس من عائلة من عائلات القرية الكبيرة أو الصغيرة

كان يخترع الحجج ليدخل الى كرم جيرانه، ويلتقي الفتيات، ويسمع أغانيهن. وعلقت في ذهنه أغنية كن يردِّدنها:

«حلوة، يا سعدية / متل الوردة الجورية / حلوة يا سعدية / متل النجمة المضويَّة…».

أعجبته سعدية، عندما راَها وتأمَّلها، بقامتها الهيفاء، وعنقها الطويل، ومنديلها الذي تضعه في وسط رأسها، فيكشف شعرها الأسودكان يتأمَّلها، ويطير عقله عندما تكرج ضحكتها، ويشرق وجهها الأسمر سمرة خفيفة.

 واذ لم يكن لديه وقت طويل، قرَّر أن يطلبها من أبيها، لكن هو يعرف، كما يعرف الكثيرون أنَّ أكرم يحبُّ سعدية، ويريد الزواج منها، وهي تتردَّد في القبول، فأكرم، كما كانت تقول لصاحباتها، فلاح، والشغل عنده كثير، وهي لم تُخلق للشغل في الحقولهي لم تُخلق الا للدَّلال والتنعُّم في بيوت بيروت، وكثيراً ما كانت تردِّد مع صاحباتها:

يا أمِّي بدِّي البيروتي / الفلَّاح بيقلِّي اشتغلي تَتْموتي

 فوطَّد هذا عزم كمال على نيل سعدية، اذ يفوز بجميلة القرية، وبـ «تشليح» الفلاَّح الكبير، ابن العائلة الكبيرة، عروسه.

رابط كمال في الكرم، وصار يتقرَّب من سعديَّة، ويقدِّم لها الهدايا، ويصف لها الحياة في بيروت ومباهجها، فكانت «تتغنَّج»، ولا تقول نعم صريحة.

وذات عصر، سمع غناء الصبايا: «حلوة، يا سعدية…»، فقال لنفسه: اضرب الحديد، وهو حاموكان دائماً مستعدَّاً، يتأنَّق ويتعطَّر، ويضع «طربون حبق» وراء أذنه، فأسرع وحمل «طبق المُلبَّس» الجاهز دائماً الى جانبه، واقتحم جلسة الصبايا، ووقف في وسطها، وركع أمام سعدية، كما يفعل البطل، في الأفلام العربيّة التي كان يشاهدها، في السينما، في بيروت، وراح يغني:

«حلوة، يا سعدية / بحياتك حنِّي عليِّي، حلوة، يا سعدية، يا أم خدود الورديّة، بحياتك حنِّي عليِّي…».

وعلا الغناء: حلوة، يا سعديةحنِّ عليه يا جورية

ثم وقف، وفتح غلاف «طبق الملبَّس»، وقدَّمه لسعدية، وراح يغني، وهو يشير اليها:

«يا ملبَّس، يا حلواني / يا منقَّى عا الصواني/ يا ملبَّس يا ملوَّز / أنا، والله، عاشق…» وردَّد الجميع: وبدِّي اتجوَّز

لم يطل تردُّد سعدية، وعندما سمع كمال غناء الصبايا في الكرم الملاصق لكرمه:

«هدِّيني، هدِّيني / تا أطلع عا التِّيني / وعبِّي السلة اكواز اكواز / خضرا وصفرا متل الزيني / وعا بيروت ودِّيني…/ توتتوتاَني رايح عا بيروت…».

فهم كمال الإشارة، وأسرع وطلب سعدية من أبيها، فوافق هذا، بعد موافقتها، وعمر العرس سبعة أيام كان أكرم خلالها يعضُّ شفتيه، ويقلب كفَّيه، لكنه لم يستطع القيام بأي عمل سوى طرد كمال، من الكرم، وهدم الخيمة التي لم يعُد كمال بحاجة اليها، لأنه عاد مع عروسه الى بيروت، بعد انتهاء الاحتفال بعرسه الذي ظلَّ موضوع أحاديث القرية مدَّة طويلة.

لم يهدأ بال أكرم، ولم يطل التفكير، فنظرات سعدية إليه، وهي جالسة على المرتبة قرب عريسها لم تفته معانيها، وقد لاحظها كمال، فوشوش عروسه، التي نفرت منه، ولوت رأيها غاضبةً

لاحظ أكرم هذا، فقرَّر، طالما أن النظرات شاردة، والنفور مُلاحَظ، منذ أوَّل يوم، أن يتصرِّف، وقرَّر أن يذهب الى بيروت، ويستأجر شقة قريبة من بيت كمال، وأن يلبِّي دعوة نظرات الحبيبة التي خطفها البيروتي منه. ولينفِّذ قَراره باع الكرم لمغترب عاد حديثاً من المهجر، وأوكل لأخيه الاهتمام بأملاكه. وقال لنفسه، وهو يغادر القرية: ماذا تريد سعدية أكثر مما لديَّ: بيروت والمال والحبُّ، وهي من دون شك لا تزال تحبُّني

جاء الصيف التالي لصيف العرس، وجاء كمال الى القرية، وقد تغيَّرت أحواله، وأقام أكرم في بيروت، وقد تغيَّرت أحواله هو أيضاً. قيل في القرية: كمال يبحث عن زوجته التي هربت، يبحث عنها في القرية أيَّاماً، وفي بيروت أيَّاماً، والمسدَّس لا يفارق يده اليمنى، في انتظار أن يجدها

 وأكرم مقيمٌ في شقته الجديدة، في بيروت، في انتظار أن تلبِّي زوجة كمال وعدها بالمجيء اليه، بعد أن أعطاها ثمن الكرم الذي باعه للمغترب الثري الذي عاد من المهجر، بعد غربة دامت سنين طويلة

والقرية في انتظار سماع الأخبار الجديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى