الوطن

إذا عرف السبب بطل العجب…

} علي بدر الدين

الواقع اللبناني الكارثي وتداعياته المحتملة القريبة والبعيدة، تنذر بأسوأ المخاطر التي يمكن أن يتوقعها أو لا ينتظرها اللبنانيون، لأنها تفلتت من كلّ الضوابط والمعايير والمفاهيم والدساتير والقوانين والأنظمة المعمول بها، لقيامة الوطن وبناء الدولة، وانتظام عمل مؤسساتها، وتوفير ولو الحدنى من الأمن الاجتماعي والغذائي والصحي والاستقرار الأمني والسياسي لشعبها، وغيرها الكثير من متطلبات النظام العام، السليم، الذي يقدم مؤشرات ومعطيات ومحفزات على الارتقاء والنهوض والإنماء، والأهمّ تفعيل العمل المجتمعي والتزام المواطنية الصحيحة، التي لا تفضل مصلحة الآخرين، دولاً ومجتمعات على وطنها ومصالحها.

ويبدو أنّ لبنان السياسي والطوائفي والمذهبي و»التنوّع والحضارة « هو استثناء بين معظم دول العالم، منذ ولادته التي حصلت بالمقلوب، في ظلّ ظروف سياسية وجغرافية وديمغرافية قاهرة، لكنها مقصودة، وهي من مخلفات دول الانتداب والاستعمار والاحتلالات، من أهمّها، النظام السياسي الطائفي والمذهبي والسلطوي والتحاصصي، الذي أنتج طبقة سياسية فاسدة ومستبدّة ومتسلطة منذ البداية «وحربجية» وفتنوية ومصلحية ونفعية وتاجرة فاجرة، تحكمت على قاعدة الربح والخسارة، وحوّلت البلاد والعباد، الى سلع تباع وتشرى في «سوق عكاظ» المصالح الدولية والإقليمية المهم عندها ان تبقى متسيّدة ومتسلطة وقوية بالمال والنفوذ والقرار وبمفاصل الدولة ومؤسّساتها ومقدراتها، مهما كانت النتائج والأخطار، حتى لو انهار الاقتصاد وأفلست الدولة، وافتقر الشعب وجاع، ومات على قارعة الطريق، كما يحصل اليوم، في ظلّ المنظومة السياسية الحاكمة، التي اعتمدت سياسة الفساد والحرمان والإهمال والنهب ومصادرة الحقوق والأموال العامة والخاصة، والتحاصص، ولم تترك طريقاً للشر إلا وسلكته، حتى وقعت الواقعة، واختلط «الحابل بالنابل» وضيّعوا «الطاسة» في بحر من الظلمات والجهل والفوضى والفلتان والتشبيحات، وأدخلوا هذا الشعب الذي اكثر من نصفه ربما غارق في التبعية العمياء والارتهان والغباء، حتى فقد حقه، وتخلى عن دوره في تحصيله، وجيّره لمن لا حق له، وأصبح لا حول له ولا قوة ولا عمل، ولا رأي ولا حراك، رغم كلّ ما تعرّض له من نهش في جسده، وحرمانه من قوته ورغيفه ودوائه، وأبسط حقوق أيّ إنسان على وجه الكرة الأرضية، ولم يعد يملك سوى صوته «المبحوح» وصمته المريب، وتصديق الوعود، والتلذذ بالنفاق والتكاذب، والأهمّ، انتظار لحظة موته البطيء جوعاً أو مرضاً، كأنه أمر محتوم، لا قرار له فيه ولا خيار.

المنظومة السياسية على أشكالها وتنوّعها وتوجهاتها، مُصرّة على مواصلة نهجها، في تقويض كلّ شيء يقف في طريق أطماعها وجشعها وجوعها المزمن للسلطة والمال، وهي المحصّنة في أبراجها وقصورها، المحمية بالعشرات من المدججين بالولاء الخاص والجهالة، والبيئات الحاضنة المنتفعة أو الخائفة أو الحالمة بنيل الرضى والفتات، وهي شاهد الزور على وطن يتهاوى ودولة تنهار وشعب يجوع، وأموال تمّ السطو عليها، وغلاء تكتوي به والشعب بأسره، ولم يستثن أحداً مهما كانت طائفته أو مذهبه أو منطقته أو تبعيته.

لن نعيد ونزيد، على ما يعانيه اللبنانيون، وهو واضح كنور الشمس، لا لبس فيه ولا شكّ، حيث تتمدّد الانهيارات، وتتوسّع مروحتها لتطال كلّ شرائح المجتمع المحلي، في ظلّ انعدام أيّ بصيص ضوء او شعلة أمل، أو حتى شبه معالجات جدية او القليل من الحلول المرجوة، قبل نعي البلد رسمياً وغرق شعبه، ونقله الى أحضان الدول ووصايتها، والعودة إلى الانتدابات المذلة التي اعتقدنا خطأ انها ولّت إلى غير رجعة، ليس في الأفق القريب والبعيد ما يوحي عكس ذلك، فخلافات أهل السياسة على أشدّها، بل تزداد شراسة، ليس من أجل السباق على اجتراح الحلول والتراجع عن خطايا ارتكبوها، وأفعال شائنة اقترفوها بحق الوطن والشعب، بل من أجل تثبيت المصالح وحماية الامتيازات واستمرار التقاسم والتحاصص، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وينقذ هذا البلد الذي لم يكن آمناً منذ ان تشكل نظامه السياسي الطائفي اللعين، الذي أورث اللبنانيين طبقة سياسية متغوّلة، و»من خلّف ما مات»

والاسوأ، أنّ كلّ الرهانات سقطت داخلياً وخارجباً، ولا يمكن التعويل على المنظومة السياسية، ولا على الشعب الجائع والمكبّل والمنهار، الذي لا يعرف مصلحته بعد كلّ الأثمان التي دفعها و»الحبل على الجرار»، ولا على الدول التي تدّعي الحرص على لبنان وتقدير أهله لأنّ همّها فقط، مصالحها وتركيز نفوذها، والإمساك بأوراق ضغط في أيّ مكان من العالم، لتحسين شروط التفاوض والمساومة، كما لانشغالها في أوضاعها الداخلية المضطربة، ولبنان وأمثاله، ليسوا من أولوياتها، وهم دائماً، على هامش اهتمامها ونقطة غير مرئية على خرائطها الجغرافية والسياسية، لأنّ مثل هذه الدول ليس لديها، ما يؤهّلها لتكون في مدارها، وهي تسند هذه المهمة لوكلائها ليقوموا بالواجب المطلوب وأكثر.

بات واضحاً جداً أن لا حكومة في المديين القريب والمتوسط، ولا معالجات جادة ولا حلول، ولا أمل، بل انحدارات وانزلاقات وضياع وغرق في الفوضى والتسيّب، بعد أن شلت المؤسسات وتمّت مصادرتها، وترهّلت هيبة الدولة، واحتدم النقاش حول الدستور والقوانين، كأننا في بداية تشكل النظام والدولة وضاع الجميع في متاهات المصالح والرهانات، ولا أحد يعرف إلى أين المصير

 هل بات لبنان بحاجة إلى عقد سياسي طائفي مذهبي جديد بفعل السقوط المدوّي لكلّ الرهانات وإفلاس الطبقة السياسية والمالية، وفشلها وعجزها، واقتصار دورها على اصطناع الخلافات الوهمية، وفتح ملفات إلهائية، علّ وعسى يكون المخرج لها وإنقاذها مما فعلته على مدى عقود أو يتمّ التجديد لها بانتظار التحوّلات التي قد يشهدها العالم، في رهان منها على أن تكون في صلب وأساس أيّ عقد أو نص أو دور أو قرار وهنا المقتل، على قاعدة من جرب المجرّب.

«إذا عرف السبب بطل العجب»…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى