ثقافة وفنون

جفرا.. حبيبة العشق الفلسطينيّ

 

} حمزة البشتاوي*

حكايات الحب هي من أحلى الذكريات لا بل هي كل الذكريات عن الحبيبة والأرض وخاصة تلك التي تأخذ بعداً ملحميّاً. وقد كتب الكثير من شعر وزجل وأغاني وأناشيد، عن تلك الحكايات ومنها حكاية حب جميلة اختزلت معاني الوطن والغربة والحنين، بطلتها لم تكبر ولم تصغر بعدما ولدت في قرية كويكات وهي من قرى الجليل الأعلى في قضاء عكا قبل النكبة عام 1948، وكانت وحيدة أهلها كما يعلم الجميع وليس لديها إخوة ولا أخوات، ولم تدخل في حياتها مدرسة أو تقراً كتاباً أو دواوين، لا قبل النكبة ولا بعدها حيث الخيمة والزينكو وعشوائيات الطين.

والحكاية هي حكاية حب وحنين انتشرت في القرية وفي بيادرها وتحوّلت أيقونة في التراث الشعبي الفلسطيني. كحكاية حب وهيام عاشها شاعر وزجال، بقصائده ومواويله وأطلق العاشق الولهان على حبيبته اسم: جفرا التي أصبح اسمها على كل لسان.

وكي أعرف الحكاية بالتمام والكمال ذهبت الى دار الحجة «أم محمد العلي» فسألتها بعد السلام والاطمئنان عن أحوالها وصحتها، ما هي حكاية جفرا يا أم محمد؟ فقالت نحنا أهالي قرية كويكات وجفرا من عنا. وهناك قبل ما يحتل الصهاينة أرضنا، كنا نشتغل بالفلاحة، وكان إلنا أرض نزرعها زيتون، وبالصيف كنا نزرع البطيخ والتين والصبير والحمضيات والقمح والشعير والحمص والبامية والكوسا والخيار، من أرضنا، والبرسيم نطعمه للخيل. كنا نزرع بأول الصيف وبشهر ستة نحصد وبوقت الشتاء والرخى والراحة كنّا ناكل الزيتون يللي موّناه، وناكل التين يلي جفّفناه ويلي بيزورنا بياكل ليشبع وبياخذ معاه.

أما بالنسبة لجفرا فهذا لم يكن اسمها الحقيقيّ، هذا كان لقباً أطلقه عليها الشاعر أحمد عبد العزيز علي الحسن، الذي كان معروفاً بالقرية باسم أحمد عزيز، وأمها لجفرا كانت عنا بالقرية تشتغل بالخياطة، وكانت تعتني كتير بأرضها وببنتها يلي تزوّجت قبل النكبة، والله رزقها بعد زواجها من إبن خالتها بولد اسمه سامي وبنت اسمها هدية. أما الشاعر أحمد عزيز الذي عرف جفرا البنت والأم والأرض والخطر عليهم من الصهاينة، صار يكتب عنهم بجرأة وشطارة وبكلمات حلوة فيها عاطفة ومرارة.

واستمر بقصائده ومواويله الحلوة وكان مخبّي سر له علاقة بجفرا البنت والأرض. وما حصل في أيار عام 1948 ولم نعرف السرّ، ولكننا عرفنا أنه ابتكر اسم جفرا، التي تحوّلت إلى رمز منذ العام 1939 وانتشرت بكل أنحاء فلسطين، وأصبحت جفرا ملهمة الشعراء، ومنهم الشاعر عز الدين المناصرة، يلي كتب عنها قصيدة بيقول فيها:

جفرا أمي إن غابت أمي

جفرا الوطن المسبي

الزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء

جفرا إن لم يعرف مَن لم يعرف

غابة زيتون ورفيف حمام

وقصائد للفقراء

وبعد ما قالت أم محمد القصيدة بطريقتها سألتها:

ما هو السر الذي له علاقة بجفرا؟

تنهّدت أم محمد وقالت: في مين يكتم السر.

قلت لها: سرك ببير.

قالت: اسمع يلي بيعرفوه للسر عددهم قليل وباختصار شديد جفرا وقبل النكبة بشهر يعني بأول الربيع طلعت على نبع المي وصارت تقطف حميضة وخبيزة ولوف وجرجير وفجأة طلعلها حبيبها وضحكلها بعيونوا وقلّها بعد ما سلّم عليها، والله يا جفرا ما بدّي تزعلي بعرف إنو صار في علينا حكي بالقرية بس ما بقدر إلا ما أشوفك ومتل ما وعدتك بس ابني الدار جاي أنا وأهلي لعند أهلك لحتى نطلبك وتفرح وما تخجل وتخاف عيونك.

فقالت له جفرا: هذا ما بيكفي أنا مهري كتير غالي.

فقال لها: أنت بتعرفي إني بفديك بحالي.

فقالت: في عندي طلب قبل ولازم تلبّيه لتصير حلالي.

قال: مهما كان أنا أفديك وأفديه.

قالت: بدك تروح عالبحر على عكا ومعك كيس وبتنزل عالشط جنب القلعة وبتبعد 50 متر باتجاه إيدك اليمين بتلاقي صخرة شبه مثلثة عالرمل وإسمي مكتوب عليها ويلي كاتبه كأنه نحّات رسمه بالمطرقة والإزميل.

وجنب اسمي بالظبط بتحفر نص متر بالأرض وبتلاقي صندوق خشب بقلبوا شوية ورد يابسين وشغلة كبيرة ملفوفة بقماش بقلب الصندوق بتجيبهن وان شاء الله غير الخير ما بصير.

وعندها نظر إلى عينيها وسألها: شو السر ومِن مين؟

فقالت له: السر له علاقة بالأرض وصاحب السر كان عاشق لي وللأرض والجوري والياسمين.

وبس تقدر تجيب السر بتصير مثله وأنا إلك وإنت بإذن الله إلي.

فقال لها: كنتِ بتحبيه.

قالت: هو كان بحبّ الأرض وسمّاها وسمّاني جفرا وبعدين استُشهد وقبل ما يُستَشهَد قال: جفرا ويا هالربع ريتك تقبريني وتدعسي على قبري

تطلع ميرامية

وقال: جفرا ويا هالربع

ربع المراتيني

شلال ينبع نبع

دم الفلسطيني

لما يغيب القمر

تضوّي شراييني

وتزخ زخ المطر

ع دروب الحرية

وإنت روح جيب السرّ لتعرف جفرا وهمومها وشو قلها وشو قالت وكيف حكايتنا مليانة وجع وبتذرف دمع لتنال الحرية. وتابعت أم محمد تروي على لسان جفرا بنبرة عالية كأنها تلقي خطاباً أمام الجماهير، وقالت: جفرا بنت أصول وكانت تقول للناس ولحبيبها:

الحرية مطلبك ومطلبي ومطلب الأرض يلي ما بتتنفس حرية إلا من خلال العشق ودم الشهداء والشعر والأناشيد.

وهكذا هو العشق الفلسطيني ما زال يقف على أعتاب بوابة الشمس حاملاً كل مقوّمات الصمود والبقاء والشموخ والأمل.

 

*كاتب وإعلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى