اقتصادمقالات وآراء

إصلاح القطاع المالي في لبنان: الدين العام والمصارف* (2)

ـ سيطرة النظام المصرفي وصلت إلى مرحلة الديكتاتورية حيث تمّ خلق مصطلح خاص هو «البنكوكراسية» كما يقول الصديق الدكتور جورج قرم أيّ حكم المصارف وذلك لغاياتها الخاصة وليس للبنان والمجتمع ـ تجميع المصارف يجب أن يخضع لمعايير موضوعية وليس لمزاجيات سياسية... لذلك يجب إعادة النظر في طاقم حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة حيث يجب أن يتولّى المسؤوليات أصحاب خبرة غير مرتبطين بالقطاع المصرفي والقوى السياسية

 

} زياد حافظ**

ثانياً: إعادة هيكلة القطاع المصرفي

أ ـ فلسفة إعادة الهيكلة

} 1 ـ الدور الوظيفي السابق والحالي

إعادة هيكلة الدين العام تفرض أيضاً إعادة هيكلة المصارف لأنّ المصارف تتحمّل مسؤولية كبيرة في تكبيد الدولة ذلك الدين كما أنها على وشك الإفلاس بسبب ذلك. ولكن إعادة هيكلة القطاع المصرفي يجب أن تكون مبنية على رؤية لدور القطاع المصرفي وليست فقط عملية هندسية حسابية تفضي إلى إعادة إنتاج نظام مصرفي يقوم بنفس الدور الذي قام فيه وأوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم. والمقصود بالرؤية هو الدور الوظيفي للنظام المصرفي الذي كان في الأساس في العالم دور خدماتي للقطاعات الإنتاجية إلى أن تحوّل ومعه الأسواق المالية إلى مصدر إنتاج ثروة افتراضية غير مرتبطة بالإنتاج الفعلي والاقتصاد. أما في لبنان، فكان الدور الوظيفي للقطاع المصرفي تدوير الفوائض المالية النفطية عندما كانت دول المنتجة للنفط في المنطقة مفتقرة إلى نظام مصرفي مالي. الحرب الأهلية التي تلازمت مع ارتفاع أسعار برميل النفط أدّت إلى خلق نظام مصرفي خليجي يستغني عن النظام المصرفي اللبناني. كما من جهة أخرى كان النظام المصرفي اللبناني يستوعب الرساميل العربية التي تدفّقت إلى لبنان بعد النكبة وبعد الثورات والتقلّبات في الدول العربية. فثراء لبنان بُني إلى حد كبير على المآسي العربية. الحرب اللبنانية أوقفت كل ذلك وحقبة الطائف حاول استعادة دور لبنان السابق على فرضية أن السلام أت إلى المنطقة خاصة بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو ووادي عربة. لكن لم يفلح النظام المصرفي بالقيام بذلك الدور فلجأ إلى تمويل الدولة بالطريقة التي عرضناها. لكن سرعان ما شحّت الموارد بالنقد الأجنبي في أواخر التسعينات فكانت مؤتمرات باريس واحد ثم اثنين ثم ثلاثة ومؤخرا مؤتمر سيدر.

ليس هدفنا التدقيق في تاريخ تمويل الدولة بل الإشارة إلى الدور الوظيفي المتحوّل للقطاع المصرفي في لبنان. فمن دور تقليدي خدماتي لبنية اقتصادية قائمة، بغض النظر عن الرأي في تلك البنية، تحوّل النظام المصرفي إلى قوّة اقتصادية، بل إلى القوّة الاقتصادية الأولى في لبنان، واخذ يلعب دوراً سياسياً كبيراً. سيطرة النظام المصرفي وصلت إلى مرحلة الديكتاتورية حيث تمّ خلق مصطلح خاص هو «البنكوكراسية» كما يقول الصديق الدكتور جورج قرم، أيّ حكم المصارف، وذلك لغاياتها الخاصة وليس للبنان والمجتمع. فابتعد عن التوظيف في القطاعات الإنتاجية واكتفي بالتوظيف بالسندات المالية والقروض الاستهلاكية التي سدّت حاجات المواطن في الاستهلاك دون ضرورة في رفع الأجور. هناك دراسة نشرتها صحيفة «الأخبار» تفيد تراجع مستوى الأجور في الناتج الداخلي ما يعزّز ما نقوله حول دور القروض الاستهلاكية.

لكن هذه السياسة المصرفية كانت محكومة بالفشل. فالمصارف كانت تعرف جيّدا ان الاستدانة لآجال قصيرة جدا نسبيا وبفوائد مرتفعة عملية مخالفة للمنطق طالما لم ترتبط بعوائد تمكن الدولة من تسديد الدين. كما أن توظيف قسم كبير من الودائع في سندات الخزينة خالفت أبسط معايير توزيع المخاطر المعترف بها دوليا. ويعود لمصرف لبنان عبر لجنة الرقابة على المصارف والحاكمية المسؤولية في التقاعس عن فرض الالتزام بتوزيع المخاطر. فالدين العام بالشكل الذي اعتمد وتم تنفيذه كان بمثابة تحويل أموال اللبنانيين إلى قلّة من المستفيدين. دول العالم بشكل عام تحاول إعادة توزيع الثروة من الأثرياء إلى الفقراء والطبقة الوسطي. في لبنان العملية كانت معكوسة فكان تحويل أموال الناس بمختلف شرائحهم إلى أقلّية محتكرة وذلك تحت شعار الحرّية واقتصاد السوق. ما كسر هذه الحلقة هو القرار الأميركي بتجفيف مصادر التمويل لأسباب سياسية وإلاّ لكانت عملية النهب المنظم مستمرة مع تسويق رفاهية مشوّهة عبر استيراد فاحش لا يتناسب مع القدرة الإنتاجية الموجودة في لبنان. الاستهلاك المفرط عبر الاستدانة عملية انتحارية أقدمت عليها القوى السياسية بشراكة المصارف.

} 2في الكفاءة

من جهة أخرى نطرح بجدّية تساؤلات حول أهلية وكفاءة القطاع الخاص في لبنان في إدارة المصارف. تعرّضت عدة مصارف لخسائر كبيرة في أعمالها في الخارج. لم يستطع القطاع المصرفي الخاص في بناء قاعدة مصرفية دولية يُقتضى بها. فاختصاص القطاع المصرفي التقليدي في لبنان هو تمويل العمليات الثلاثية بين المغتربين والدول الأوروبية ولبنان. واعتمد على التوظيف في نشاطات مدعومة من قبل الدول التي كانت تعمل بها كتركيا ومصر لكن شروط العمل فيها لم تكن لصالح تلك المصارف. ما نريد أن نقوله إن المصارف اللبنانية نقلت ثقافة التعامل المصرفي في لبنان ودور الحمايات والوساطات في الحصول على عقود في تعاملها إلى الخارج لكنّها فشلت في منافسة المافيات المحلّية هناك ما أدّى إلى ضرورة أجراء هندسيات مالية قام بها مصرف لبنان لصالح تلك المصارف الكبيرة النافذة التي برهنت عن سوء تقدير وعدم كفاءة في مقاربة البيئة التي تعمل فيها.

من جهة أخرى إن الكفاءات الموجودة في القطاع المصرفي في لبنان لا تؤهّل تلك المؤسسات للقيام بعمليات تمويل حقيقية غير العمليات الورقية المعتادة التي لا تغني عن جوع ولا تسمن، أي لا تؤدّي إلى إنتاج فعلي بل إلى ثروة ورقية افتراضية. لذلك لسنا مقتنعين بأن القطاع الخاص المصرفي في لبنان يملك قيمة مضافة تجعله رائدا في العمل المصرفي والنتائج تدعم تقييمنا.

لذلك يصعب التفكير في إعادة الاعتبار لقطاع مصرفي أخلّ في الحفاظ على الأمانة عبر توزيع المخاطر بل كان شريكا واعيا في عملية إقراض الدولة بفوائد مرتفعة وهو يعلم أن الدولة لن تستطيع تسديدها. لذلك وظّفت المصارف أموال المودعين إلى سندات خزينة والأرباح المهرّبة للخارج كانت من نصيبها ومالكيها. فلا كفاءة ولا امانة لدى النظام المصرفي القائم. وسلوك المصارف تجاه المودعين والاذلال المتعمّد هو إمعان في الاستهتار. لذلك نطرح الأسئلة التالية بكل وضوح: ما هي جدوى النظام المصرفي الحالي؟ وهل يمكن تجديد الثقة لمن ساهم في خراب البلد؟ وبشكل فلسفي سياسي هل يمكن الاتكال على القطاع الخاص في مرفق حيوي في الاقتصاد الوطني؟

} 3رؤية جديدة للقطاع المصرفي

نعرض في هذه الورقة رؤية مختلفة عن الرؤية السائدة للقطاع المصرفي. نعتبر أن الدور الأساسي للقطاع المصرفي هو المساهمة في تمويل النشاط الاقتصادي بشكل عام والنشاط الإنتاجي بشكل خاص. الربحية مشروعة لأي نشاط بما فيه القطاع المصرفي. لكننا نميّز بين الربح المشروع المرتبط بنجاح وإنتاجية القطاع الإنتاجي والربحية الناتجة عن المضاربة المالية والعقارية وعن الثروة الافتراضية الناتجة عن التداول في إنتاج وترويج الأوراق المالية والوساطات بينها والتشجيع على الممارسات الاحتكارية والتمركز في النشاطات. هناك بعد أخلاقي إذا جاز الكلام للدور الذي يجب أن يقوم به القطاع المصرفي وإن كانت الأخلاق والعمل المصرفي في حال تناقض افتراضي وتاريخي. فهو افتراضي لأن يتذرّع بحماية القانون الذي يستطيع أن يصنعه عبر الضغط على المشترع وحدود الأخلاق الذي لا يستطيع التأثير به. لكن هذا بحث منفصل يخرج عن إطار مقاربتنا هنا ولكن نشدّد على الأخلاق والقيم والأعراف تشكّل بعدا أساسيا في سلوك مجتمعتا وخاصة الموروث الثقافي التاريخي المشترك بين مختلف مكوّنات المجتمع في لبنان. والتناقض تاريخي وفقا للروايات في الرسائل السماوية وفي الأدب بشكل عام وفي سلوك المصارف والمؤسسات المالية في مناخ العولمة التي تتجاوز القيود الموروثة. فدور المؤسسات المالية في تسبّب انهيارات مالية عبر التاريخ موثّقة لا داعي سردها بل نكتفي باٌلإشارة إلى أزمة الرهونات العقارية في العالم وانعكاساتها على اقتصادات الدول وعملية السطو المنظّم للقطاع المصرفي في لبنان على مدخرّات المواطنين.

أما الرؤية الجديدة فتهدف إلى إقامة قطاع مصرفي يخدم حاجات التنمية والنمو وبالتالي يعود إلى ملكية المصارف وحجمها من جهة ولسياسات التسليف من جهة أخرى. نؤمن بدور أساسي للجمهور العريض الذي يجب أن يتمثّل في ملكية المصارف إما عبر الدولة وإما عبر المؤسسات التعاضدية وإما عبر الاكتتاب المباشر على قاعدة ألا يمكن لمجموعة أن تملك أكثر من نسبة محدّدة من رأس المال المؤسسة. والمجموعة تشمل الفرد وأفراد عائلته القريبة والبعيدة أو المؤسسات التابعة لهم. نعي أن هذا الطرح قد لا يلاقي استجابة في المزاج الحالي في لبنان لكن نطرحه كرؤية مستقبلية لا بد من مقاربتها عاجلا أم آجلا. الهدف هو منع قيام تكتّل مالي وازن يضغط على الدولة وسياساتها. أما فيما يتعلّق بالسياسات فيجب أن تكون منسجمة مع الرؤية الشاملة التي تضعها الدولة في تخطيطها لعملية التنمية والنمو. ونميّز بين التنمية والنمو على قاعدة أن الهدف الأساسي هو التنمية بكافة أشكالها وعلى أن النمو هو المعيار الرقمي لمكوّنات تلك التنمية. وهذا حديث يناقش في إطار موضوع التخطيط العام الذي ندعو إلى إعادة الاعتبار له كخيار استراتيجي في مقاربة النهضة الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.

بهيكلة مصرف لبنان

أداء النظام المصرفي يشمل أداء مصرف لبنان. والأخير هو المسؤول عن العديد من المخالفات لقانون النقد والتسليف وخاصة الحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية واعتماد سياسة نقدية وطنية تساهم في التنمية. وتثبيت سعر الصرف كان بمثابة عامل لاستجلاب ودائع خارجية توظّف في سندات الخزينة وليس لغرض استقرار في التعامل التجاري وخاصة في شجيع الصادرات. كما أن تثبيت سعر الصرف على 1507 لم يكن مبنيا على اعتبارات اقتصادية واضحة ودقيقة بل على تقديرات أقرب للرغبة ولغايات مشبوهة. فبنظرنا كان سعر الصرف هدفه جعل الليرة اللبنانية رخيصة لشراء أصول ثابتة ومالية بأسعار متدنية. فعملية النهب لم تكن فقط في تحويل المدخرات الوطنية إلى القلة المحتكرة لسندات الخزينة بل أيضا جعل المستثمر الخارجي يستفيد من ذلك وبسعر رخيص. لكن هذا حديث لا يسمن ولا يغني عن جوع لأن واقع الحال تغيّر كلّيا. ما نريد أن نقوله هو أن مصرف لبنان أخلّ بالأمانة الموكلة له كما لم يبرز كفاءة في درء المخاطر التي كانت واضحة وقادمة. فالمديح الدولي لأداء حاكم مصرف لبنان دليل أن المؤامرة على لبنان كانت مزمنة ومخططة لها للوصول إلى ما وصلنا اليه.

بناء على ذلك لا بد من إعادة النظر في بنية مصرف لبنان ودوره في الاقتصاد اللبناني. فالاعتبارات التي كانت سائدة عند انشاء المصرف المركزي في الستينات من القرن الماضي لم تعد قائمة. وإعادة هيكلة مصرف لبنان يجب أن تنال الدور الوظيفي لمصرف لبنان، ولحاكمية المصرف.

} 1 ـ الدور الوظيفي

الدور الوظيفي لمصرف لبنان يجب أن يكون آداة لعملية التنمية والتشبيك الإقليمي إضافة للأدوار التقليدية المناطة به. والسياسة النقدية يجب أن تكون مرتبطة بتوجيهات الدولة في نقل الاقتصاد من حالة ريعية إلى حالة إنتاجية. وبالتالي فإن السياسة النقدية يجب أن تساهم في دعم تمويلي عبر أجهزة مختصة يشرف عليها المصرف المركزي للقطاعات الإنتاجية. كما أن مصرف لبنان يوجّه المصارف نحو تسليف تلك القطاعات وعدم تشجيع القطاعات ذي القيمة المضافة المتدنية كالقطاع العقاري للإسكان غير الشعبي.

من ضمن السياسات النقدية التركيز على العملة الوطنية ومنع التعامل الفردي بين المواطنين بعملة غير الليرة اللبنانية تحت طائلة حكم الاجرام. الحصول على النقد الأجنبي يجب أن يكون مبرّرا إما للاستيراد أو للاستثمار أو للسفر. لا داعي لحمل عملات اجنبية.

كما أن الانتقال إلى حالة إنتاجية وفقا لرؤية مستقبلية تواكب التشبيك الاقتصادي تعنى التفاهم والتنسيق مع المصارف المركزية للدول المعنية. فتجانس السياسات النقدية ضرورة لإنجاح الخطة التشبيكية.

} 2 ـ دور مصرف لبنان والمصارف في تكوين الكتلة النقدية

النظرية الاقتصادية السائدة التي تؤسّس للسياسات النقدية تعتبر أن النظام المصرفي برمّته يخلق الكتلة النقدية التي هي مجموع النقد المتداول زائد الودائع قصيرة الأجل. وبما أن سياسة المصرف المركزي، في لبنان كما في سائر دول العالم، تجعل الاحتياط الإلزامي نسبة مئوية معيّنة من إجمالي الودائع، فإن ارتفاع تلك النسبة يقلّل من إمكانية خلق الكتلة النقدية عبر زيادة الودائع قصيرة الأجل. ما نريد أن نقوله إن ذلك النظام يشكّل تعدّيا على صلاحية الدولة في التحكّم بالكتلة النقدية. وبالتالي فرض نسب متدنّية للاحتياط الإلزامي يزيد من مخاطر وانكشاف المصارف، كما حصل، لكنه يزيد في تراكم الودائع القصيرة الأجل التي تعتبر جزءا من الكتلة النقدية. السؤال يصبح أين نقطة التوازن المناسبة بين زيادة الكتلة النقدية عبر الودائع القصيرة الأجل (أي التي أجلها اقل من سنة) والنقد المتداول الذي تصدره الدولة؟

انعكاسات الإجابة على ذلك السؤال كبيرة. فارتفاع نسبة الاحتياط تقلّل من زيادة الكتلة النقدية وهذا قد ينسف قاعدة النمو عبر الضخ النقدي في الدورة الاقتصادية. بالمقابل فإن تخفيض نسبة الاحتياط تزيد من الكتلة النقدية وبالتالي تعزّز الانكشاف الاقتصادي تجاه إنتاج ثروة افتراضية لا تتلاءم مع الطاقة الإنتاجية الفعلية في البلاد. نطرح هذه الأسئلة لأنها توّثر في الفكر الاقتصادي، وفي السياسات التي يجب اتباعها. لا نتوقع أن يجيب المسؤولون عليها كما لا نتوقّع الاقتصاديون مقاربة تلك الأسئلة لخطورتها.

} 3مراجعة استقلالية حاكم مصرف لبنان

في هذا السياق لا بدّ أن يخضع الحاكم لمساءلة ومحاسبة في تنفيذ السياسات التي ترسمها الحكومة. فهو ليس سلطة مستقلّة وليس منتخباً. هو موظف موكلة إليه مسؤولية محدّدة في قانون النقد والتسليف ومسؤولية تنفيذ الشق النقدي لسياسات الحكومة. في الظرف الحالي يتذرّع الحاكم باستقلالية ويلقي من جهة أخرى المسؤولية على الحكومات السابقة. استقلالية الحاكمية لا تجعله غير مسؤول عن السياسات الحكومية التي ينفّدها. كما لا يجوز أن يكون الحاكم من يقرّر ما هي الإصدارات المطلوبة لسندات الخزينة بل هذه مهمة وزارة المالية. فلا يجوز دمج السياسة المالية والسياسة النقدية في جهة واحدة. نعم للتنسيق ولا للدمج.

} 4 ـ استيداع الذهب في الخارج

لا ندري حجم احتياط الذهب الذي تملكه الدولة ولا ندري مقرّ ذلك الاحتياط إلاّ بالتواتر. فهل صحيح أنّ قسطاً كبيراً من الاحتياط محتجز لدى الاحتياط الاتحادي في الولايات المتحدة، وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا؟ يجب أن يكون الاحتياط من الذهب في خزنة المصرف المركزي ولا خارجه لأنّ الوجود في الخارج انتقاص للسيادة ومصدر ابتزاز من الخارج. فالثقة بالولايات المتحدة محدودة للغاية في الحدّ الأدنى ولا تتصرف كصديقة للبنان إلاّ بمقدار ما يلائم مصلحة العدو الصهيوني.

} 5هيئات متفرّقة

يجب تطوير هيئة الدراسات في مصرف لبنان لجعلها مرجعا أساسيا لقراءة المشهد الاقتصادي اللبناني واستشراف المراحل المقبلة. كما أن على تلك الهيئات التنسيق مع نظيراتها في المصارف المركزية للدول التي ستكون ضمن التشبيك الاقتصادي. من جهة أخرى يجب تطوير مراكز التأهيل للعمل المصرفي المركزي وإقامة دورات تدريبية مع مراكز خارجية كالصين وماليزيا وروسيا على سبيل المثال. فالاقتصاد العالمي سيكون في دول آسيا والشرق بشكل عام والارتباط الحصري بالمراكز الغربية لم يعد مبرّرا.

جإعادة هيكلة القطاع المصرفي الخاص

في ما يتعلّق بالقطاع المصرفي الخاص نعتبر من الضروري إيجاد نظام مصرفي يتماشى مع التصوّر لنقل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد إنتاجي. فهذا يعني إيجاد مؤسسات مختصة في التمويل المتوسط والطويل الأجل للقطاعات الإنتاجية وتحفيز القطاع المصرفي التجاري في التوظيف في القطاعات المنشودة. أي أن سياسة الائتمان لدى المصارف التجارية بجب أن توجّه في الأولوية لحاجات القطاعات الإنتاجية. هذا ما يُسمّى بالتوجيه القطاعي للائتمان.

في إطار إعادة الهيكلة هناك عدّة اعتبارات يجب مقاربتها. الاعتبار الأول هو عدد المصارف التي يجب ان تعمل في لبنان ونوعيتها. الاعتبار الثاني هو حجم المصارف المطلوبة، أي حجم رأس مالها. والاعتبار الثالث هو ملكية ذلك القطاع.

} 1 ـ عدد المصارف

لما كان التصوّر لدى النخب الحاكمة أن دور لبنان الأول هو كمركز مالي كانت السياسة المعتمدة فتح أكبر المجال لمشاريع مصرفية. لكن حجم الاقتصاد اللبناني لا يبرر العدد الذي وصل إليه خاصة أن خمسة مصارف في لبنان تسيطر على حوالي 75 بالمائة من الودائع فيصبح السؤال ماذا تفعل العشرات من المصارف العاملة في لبنان؟ نعتقد أن العدد لا يجب أن يتجاوز العشرين من مصرف تجاري إلى مصرف مختص. والرقابة على عدد أصغر من المصارف يصبح أسهل.

نعتقد أن عاملا أساسيا لكبر عدد المصارف في لبنان هو وجود ما يُسمّى بالسرية المصرفية. فهذه السرّية المصرفية أوجدت لجلب الرساميل العربية في المرتبة الأولى والأجنبية لدعم لبنان في دوره الوظيفي كجسر بين المشرق العربي والغرب. بغض النظر عن أسباب وجود ذلك القانون بات واضحا أنه أصبح ذريعة لانتشار المصارف الصغيرة والمتوسطة التي لا دور انمائي يذكر لها. وهناك حديث عن دور المصارف اللبنانية في تبييض الأموال العربية وغير العربية لكن هذا خارج نطاق بحثنا. ما نريد أن نقوله هو ذلك القانون أصبح عبئا على لبنان. فلا الدولة اللبنانية تستطيع أن تتطلع على أموالها في المصرف المركزي بذريعة السرّية المصرفية ولا الدولة تستطيع أن تراقب المواطنين وشرعية ثرواتهم. لذلك ندعو بكل وضوح إلى ألغاء ذلك القانون خاصة أن الخزينة الأميركية تستطيع رقابة الحركة المالية في لبنان دون الدولة اللبنانية. وإلغاء القانون يفقد المبرر لإنشاء مصارف لا تريد الانخراط في عملية التمويل الاقتصادي.

} 2حجم المصارف

تحديد حجم رأس مال المصرف مسألة معقّدة وخاضعة لمعايير دولية يصعب تجاوزها. فمقتضيات بازل تفرض أن يكون الحد الأدنى للرأس المال موازيا لحوالي 8،5 بالمائة من إجمالي الودائع. عدد كبير من المصارف الكبيرة في العالم يتبع معدّلات أكبر من ذلك خاصة في مناخ المضاربات المالية المتفاقمة في الأسواق المالية. نعتقد أن ملاءة المصرف اللبناني يجب أن تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأعمال المصرفية التي يقوم بها والمخاطر المرتبطة بالتوظيفات. ليس هدفنا الخوض في تقنيات الملاءة ولكن ما يهمّنا التأكيد عليه أن حجم رأس المال يجب أن يتلاءم مع حجم الودائع التي يريد استقبالها. الميل الطبيعي لمالك البنك هو تخفيض حجم راس المال لأن المردود على استثماره يكون أكبر بينما مقتضيات الملاءة وامانة الودائع تقضي بأن يكون الراس المال أكبر. أين تكمن نقطة التوازن مسألة تقنية تحدّدها الظروف لكن بشكل عام شروط الدخول في القطاع المصرفي يجب أن تكون صارمة تجاه حجم رأس المال لضمان سلامة الودائع. لذلك يصبح السؤال من هم وما هو عدد المالكين للمصارف؟

} 3توعية المصارف

المصارف المطلوبة يجب أن تقوم بدور وظيفي واضح وهو المساهمة في نقل الاقتصاد من طابعه الريعي إلى طابع إنتاجي. وهذا يمكن عبر استراتيجيتين متكاملتين: الأولى تقضي بإنشاء مصارف مختصة بالتمويل المتوسط والطويل الأجل لتمويل مشاريع استثمارية في القطاعات الإنتاجية، والثانية عبر اعتماد توجيه سياسات الاستثمارات لدى المصارف التجارية نحو القطاعات الإنتاجية.

نقترح إنشاء مصرف للصناعة، وللزراعة، وللسياحة، وللإسكان الشعبي، وللمواصلات والطاقة تملكها الدولة منفردة أو بالشراكة مع الرأس المال الوطني عبر عملية اكتتاب شعبية سواء في الأسهم أو في سندات طويلة المدى تصدرها المصارف ومكفولة من الدولة. كما يجب الإضافة إلى مصارف مختصة بالتمويل المصغّر (microfinance) الذي يخضع لشروط موضوعية مختلفة يمكن بحثها في مكان آخر. هذه الشبكة من المصارف هي قاعدة النظام المصرفي. أما المصارف التجارية العامة فهي متكاملة مع الشبكة وليست بعيدة عنها.

وبناء على الاعتبارات أعلاه يمكن رصد عدة سيناريوهات لإعادة الهيكلة على قاعدة الملكية.

دسيناريوات الملكية

هناك ثلاث سيناريوات أساسية يمكن تصوّرها كما أن يمكن تصوّر سيناريوات ما بين السيناريوات المقترحة.

} 1 ـ السيناريو الأول: الملكية للقطاع العام

بعد الإخفاق الكبير للقطاع المصرفي في تحمّل مسؤولية الأمانة والكفاءة يمكن تصوّر القطاع المصرفي كمرفق اقتصادي استراتيجي يؤثّر بالأمن القومي اللبناني وإلى حد كبير بالأمن القومي للمشرق العربي كما حصل في العلاقة مع سورية. الاعتبارات التي تدعم هذا التوجّه سياسية واقتصادية في آن واحد وتعود إلى الخيارات الكبيرة التي يمكن اتخاذها في إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني وتوجهّاته الإقليمية.

في هذا السيناريو الدولة تملك القطاع المصرفي وتصبح المسؤولة عن النشاطات المصرفية بشكل مباشر وخاصة في ما يتعلّق بأمن ودائع المواطنين. التوجّه العام لعمل القطاع المصرفي هو لتلبية حاجات التنمية والنمو وليس للإثراء. وهذا السيناريو ينسجم مع السيناريو الأول لإعادة هيكلة الدين أي شطبه بكامله حيث رساميل البنوك الخاصة لا تستطيع تسديد الودائع التي تصبح في عهدة الدولة.

} 2 ـ السيناريو الثاني: الملكية المختلطة

في هذه الحال تكون ملكية القطاع المصرفي مختلطة بين القطاع العام والقطاع الخاص. في هذه الحال يمكن تصور مصارف يملكها القطاع العام سويا مع القطاع الخاص، أي الراس المال الخاص، بنسب يتمّ الاتفاق عليها، كما يمكن تصوّر مصارف يملكها القطاع العام إلى جانب مصارف يملكها القطاع الخاص. لكن من الواضح أن القوّامة يجب أن تكون للقطاع العام. هنا يحضر لدينا النموذج الصيني الذي حقّق نجاحات باهرة حيث أصبحت أربع مصارف صينية حكومية أكبر مصارف في العالم قبل المصارف التقليدية الأميركية أو البريطانية أو الألمانية أو السويسرية. هذا يدحض المقولة أن القطاع العام غير كفؤ وأن الأبداع والكفاءة فقط في القطاع الخاص. الأخير برهن عن فشله الذريع في لبنان فلماذا تُعاد التجربة؟

المصارف العامة والخاصة عليها أن تتحمل مسؤولية حماية الودائع، وخاصة ودائع الطبقات الوسطى والفقيرة، وودائع المغتربين الذين يريدون الاستثمار في لبنان وأو دعم الأقارب المقيمين في لبنان. المهمة المطلوبة هي إعادة الثقة في سلامة النظام المصرفي كمرجع آمن للمدخرات الوطنية بينما النظام القائم بدّد تلك الثقة.

} 3الملكية الشعبية

نقصد هنا ملكية المصارف تكون لهيئات شعبية تقوم على قاعدة التعاضدية. فالنقابات والتعاونيات وسائر أشكال العمل المشترك المجتمعي يمكن أن تنشئ مؤسسات مصرفية تخدم القطاعات التي تعمل فيها. من جهة أخرى يمكن إنشاء مؤسسات مصرفية شعبية على قاعدة الاكتتاب الشعبي حيث لا مجموعة تستطيع أن تملك أكثر من نسبة معيّنة من الراس المال. والهدف هنا أيضا خدمة القطاعات الشعبية وليست البحث عن الثروة. وهذا السيناريو يمكن أن يتماهى مع السيناريوين السابقين.

} 4السيناريو الثالث: الملكية للقطاع الخاص

في حال أن موازين القوّة في لبنان لا أو لن تسمح بدور ريادي للدولة في القطاع المصرفي فلا بد من إعادة تأهيله لكسب المصداقية المفقودة بسبب سوء اداءه وسوء الائتمان الذي ارتكبه. لذلك لا بد من إعادة النظر في عدد المصارف وحجمها من جهة وإعادة تكوين رساميل المصارف العاملة حيث تستطيع ملء العجز في الأصول المرتكزة على حمل سندات الخزينة، وفرض رقابة مشدّدة على أداء المصارف.

تجميع المصارف نحو عدد أقل مما هو عليه الآن يجب أن يخضع لمعايير موضوعية وليس لمزاجيات سياسية. لذلك يجب إعادة النظر في طاقم حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف حيث المسؤوليات يجب أن يتولّاها أصحاب خبرة غير مرتبطين بالقطاع المصرفي والقوى السياسية. هذا يخضع لمشروع الإصلاح السياسي الذي لا بد من مقاربته لكنه خارج إطار البحث في هذه الورقة.

لسنا من أنصار السيناريو الثالث لأن التجربة تدل على أن القطاع المصرفي الخاص يفتقد إلى المهنية والضمير المهني وإلى حد كبير من حسّ وطني وقومي. فلا أمل من هذا القطاع الذي كان سببا رئيسيا للبلاء الذي أصاب لبنان.

} 5 ـ الملكية الخارجية للقطاع المصرفي

هناك فلسفة سائدة لدى النخب الحاكمة أن لبنان لن يصبح مركزا ماليا إقليميا ودوليا إلاّ إذا ما توافدت المؤسسات المالية الدولية إلى لبنان عبر استثمارات مباشرة أو عبر الشراكة مع مؤسسات وطنية. هذه الرؤية يجب أن تخضع إلى نقاش موسع وقياس إيجابيات إدخال أطراف خارجية في القطاع المالي وبين سلبيات ذلك. هذا حديث ينخرط في الرؤية الاستراتيجية لتنمية البلاد والخيارات المطروحة كالتوجّه شرقا والتشبيك مع دول الإقليم والانخراط في الكتلة الاوراسية. لا نرى فائدة الاستمرار في التعامل مع المؤسسات الغربية ولكن يمكن البحث في ذلك الموضوع في مرحلة لاحقة.

ثالثاً: خاتمة

الحلول التي عرضناها للإصلاح في القطاع المالي والمصرفي تحتاج إلى قرار سياسي. هذا القرار ليس موجودا حاليا لأن موازين القوى لا تسمح بذلك ولاعتبارات سياسية استراتيجية لا تريد المسّ بجوهر النظام والكيان. لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية التحضير لاستراتيجية اصلاح اقتصادي ومالي عندما تسمح الظروف. لسنا متشائمين حول إمكانية حصول ذلك بل نعتبرها حتمية لأن موازين القوّة في الخارج تصب في مصلحة التغيير في لبنان وإن كان النظام القائم متجذر ويملك حتى فائضا من القوة.

الحلول المعروضة مرتبطة بالخيارات التي أوضحناها في بداية المقاربة من حيث الانتقال إلى اقتصاد انتاجي، ومن حيث التوجّه نحو التشبيك، ومن حيث ضرورة إعادة الاعتبار إلى التخطيط المركزي. كما أننا عرضنا توجّها لقطاع المصرفي ليكون في خدمة المجتمع وليس المجتمع في خدمة القطاع المصرفي. عامل الربح لا نلغيه بل نعتبره خاضعا لأولوية خدمة المجتمع.

لذلك فإن القطاع الخاص قد لا يكون مقتنعا بذلك التوجه وبالتالي نرى ضرورة تدخل القطاع العام في إدارة الشأن المصرفي. وما يعزّز موقفنا هو فقدان الثقة بالقطاع الخاص الذي برهن إلى افتقاد المهنية، وأمعن في سوء الأمانة المؤتمن عليها من قبل المودعين، والتصق بفساد القوى السياسية الحاكمة.

عملية الإصلاح الاقتصادي تتلازم مع عملية الإصلاح السياسي ولا جدوى لإصلاح اقتصادي بمعزل عن الإصلاح السياسي. والإصلاح السياسي مرتبط بتغيير موازين القوة دوليا وإقليميا وهذا ما نتوقعه أن يحصل في مستقبل قد لا يكون بعيدا. إلى ذلك الحين، ما علينا إلاّ تكرار ما نقوله حتى يدخل في الوعي الجماعي. ففي آخر المطاف مستلزمات التغيير تتطلب وعيا غير موجود حتى الساعة وهذه هي مهمتنا.

 

*ورقة قدّمت للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي في 2 آذار/ مارس 2021

*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى