نقاط على الحروف

سورية رئة لبنان… وأوكسجينه

 ناصر قنديل

 

وجهان لحقيقة واحدة تظهرهما لحظة الاستعانة اللبنانية والتلبية السورية، التي فرضتها ضرورات المواجهة المفتوحة مع وباء كورونا، في ظروف شديدة القسوة على البلدين. الوجه الأول هو، تفوّق ما خلقه الله على ما يصنعه بنو البشر، كما كان يقول الرئيس الراحل حافظ الأسد عن علاقة سورية ولبنان، «ما جمعه الله لا يفرقه بنو البشر»، وما كان يصفه نابوليون باستبداد الجغرافيا، وما يصفه الدستور اللبناني وفقاً لما تمّت صياغته في اتفاق الطائف، بالعلاقة المميّزة بين لبنان وسورية وفقاً لروابط التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، والوجه الثاني هو الروحية التي تنظر من خلالها سورية نحو لبنان، وعلى رأس سورية رئيسها الدكتور بشار الأسد. فلبنان الذي يخرج الكثير من سياسييه للتطاول على سورية لا يجوز أن يحاسب شعبه في لحظة ضيق بجريرة هؤلاء، ولو كانت سورية محاصرة وتعاني ضيقاً أكثر من لبنان، وهو يتردد في تلبية حاجاتها في لحظات الضيق، فإنها تقتسم الأوكسجين كما الخبز مع الشقيق اللبناني، من دون تمييز في هوية مَن سيتلقى هذا الأوكسجين بين مؤيد ومعارض لسورية.

واجه لبنان بالأمس لحظة سوداء شديدة الخطورة، مع تبلّغ وزير الصحة من شركات توريد الأوكسجين، استحالة تغطية حاجات المستشفيات من الإنتاج المحلي بعدما تعذر وصول الباخرة التي تحمل الأوكسجين المستورد، فماذا عساه يفعل ومئات المرضى يعتاشون على الأوكسجين، والمهلة تضيق، والكارثة تقترب، فوضع الحسابات الصغيرة والمريضة جانباً، لبنان في الجغرافيا بين البحر المغلق بسبب أحوال جوية ستستمر لأيام لا يمكن انتظارها، وفلسطين المحتلة حيث عدو غاصب، وسورية الشقيق الذي يتهرّب أغلب لبنان السياسي الحليف والخصم لسورية، كل بحسابات وبنسب، من تحمّل مسؤولية فتح قنوات التعاون معها، مرّة بذريعة عدم إغضاب الأميركي، ومرة بذريعة عدم استغضاب السعودية، ومرات خشية العقوبات، وخشية الابتزاز الإعلاميّ، أو التعرّض لألسنة الحاقدين أو المأجورين أو المستأجرين، وكان يعلم الوزير أن العتب السوري كبير على المسؤولين اللبنانيين، ولو كان عتباً صامتاً على الحلفاء، وتجاهلاً لسواهم، ويعلم الوزير أن سورية في ظروف أشد قسوة من ظروف لبنان، وهي محاصرة ومصابة بالجراحات، وقد لا تكون قادرة على مد يد العون، أو قد تتردّد بفعل ذلك نتيجة الشعور بالمظلوميّة وافتراض القصد نوعاً من الانتهازيّة، لكن لا خيار، فغامر الوزير على الضفتين ودق الباب. وخلال ساعات قليلة لقي الجواب، أبواب دمشق مفتوحة لكم وتوجيه الرئيس بشار الأسد تأمين كل الفائض الممكن من الأوكسجين للبنان.

ليس في المشهد أي فرص ليكون الموقف محكوماً بالحسابات المتصلة بما يفكّر به المرضى النفسيّون الذين يتعاطون السياسة بعقدهم وأحقادهم، فقد تصرّفت سورية ورئيسها وفق سلم قيم يقود مواقف سورية بصورة تلقائية وعفوية نابعة من اليقين، لا تحتاج لفحص وحسابات ودراسة. فالجواب الفوريّ في سورية هو نعم، عند ورود أي طلب من شقيق، وخصوصاً لبنان، فلبنان بنظر سورية هو المقاومة التي هزمت الاحتلال وأعزّت العرب ونصرت سورية، ولمن لا يعرف، يجب أن يتعلّم أن يعرف، أن اللا في مثل هذه الحالات، حتى لو كان سببها عدم توفر القدرة، هي قرار صعب على سورية، وهو الذي يحتاج الى دراسات وفحص وتدقيق، فلربما أظهر ذلك فرصاً جديدة لنعم مخبأة، تفادياً لقول لا، وقد حدث هذا مراراً مع لبنان، وحدث مع غير لبنان، فيوم احتاج الأردن وهو يخاصم سورية للماء وللقمح، لم تتردّد سورية في مد يد العون من دون منة، ومن دون طلب مقابل، ومن دون تمييز من يحبها عمن يكيد لها. فهي سورية التي يصعب على الكثيرين فهم أن تفكر بهذه الطريقة، خصوصاً بين اللبنانيين، فلبنان الذي يكيل مسؤولوه صبح ومساء المديح للسعودية سعياً لاسترضائها، بذريعة غضبها من مواقف لبنانية لا ترضيها، وتعاقب لبنان كله بذريعتها، فيخصّها بأول زيارة لرئيسه نحو الخارج، وهو صديق سورية ولم يزرها بعد كرئيس، وهو شريك حزب الله في تفاهم تاريخيّ ولم يلبِّ بعد دعوة إيرانيّة للزيارة، ورغم «السعودية فوبيا» التي يعيشها اللبنانيون، تمنع السعودية سياحها الذين ينفقون مال ترفهم، من زيارة لبنان أملاً بسقوطه عسى تسقط بعض حجارته على رأس المقاومة. لبنان هذا يصعب عليه تصديق أن سورية المحاصرة والجريحة والمظلومة والمعتدى على سمعتها، لا تبخل بأوكسجينها الأبيض الذي خبّأته ليومها الكوروني الأسود عندما يقصدها لبنان، ولا تنتظر ثمناً ولا تعويضاً، لكنها الحقيقة بلا تدخل، وفي لحظة ترسم الأقدار فرصة لمفاجأة تظهر لتصيب الجميع بالذهول، خصوصاً السفيرة التي استعرضت أمام الكاميرات توزيعها للكمامات على بعض السيارات العابرة قرب سفارتها ورواد سفاراتها الذين أصابتهم الهيستيريا من المشهد.

شجرة الشوك مهما أجهدت نفسها لا تستطيع أن تمنح فيئاً لمحتاج، والشجر الوارف الظلال لا يحمِّل المحتاج منّة ظلاله.

كنّا في الماضي نتحدث عن العلاقة اللبنانية السورية فنقول مجازاً إن سورية رئة لبنان، بقصد الإشارة لكونها عمقه الاقتصادي والطبيعي، وهذه الحقيقة التي لا تتغير، فإذ بالأقدار الصعبة تريد لنا أن نرى سورية رئة لبنان وأوكسجينه للتنفس فعلاً، عسانا نفهم أن ما جمعه الله لا يفرّقه بنو البشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى