نقاط على الحروف

مستويات للنقاش حول الموقف من الترسيم

 ناصر قنديل

لا يمكن وضع المعترضين على مشروع اتفاق ترسيم الحدود البحريّة في سلة واحدة، فهناك من يعترض على مسودة الاتفاق وهو كان من دعاة الموافقة على خط فريديريك هوف الذي يقوم على قسمة المساحة بين الخطين 1 و23 بين لبنان وكيان الاحتلال، مع علمه بأن مشروع الاتفاق الحالي يحقق للبنان ما لم يحققه خط هوف الذي بقي على الطاولة 10 سنوات تحت تهديد لبنان بالمجاعة أو القبول، وهناك مَن يعترض على مشروع الاتفاق وهو يحمل موقفاً ثابتاً بالوقوف بوجه كيان الاحتلال ودعم مقاومته، ويعتقد أن حقوق لبنان تتجاوز ما تضمنه المشروع، وهناك مواقف وخلفيات وحسابات تتدرج بين هذين الحدين، بما فيها الذين يحركهم السعي للنيل من هذا الرئيس أو ذاك. وبذريعة هذا السعي لا مانع من القول عندهم إن اتفاق 17 أيار منح لبنان ما هو أفضل، وهو ما يعرفون أنه مناف للحقيقة، وأن لا أساس له من الصحة، ومنهم أيضاً من يهمه الكيد للمقاومة وإنكار دورها الذي بدونه كان على لبنان البقاء في قعر الانهيار حتى الاستسلام لخط هوف الذي يبقي الحقول الواعدة كلها، في البلوكات 8 و9 و10 ضمن حصة كيان الاحتلال. ولأن المشروع جاء ثمرة تدخل المقاومة وحضورها يتراءى لهم أن النيل منه والتهوين مما تحقق فيه سيصيب المقاومة وشعور اللبنانيين بالعرفان لما قدّمت.

الشيء الأكيد الذي يجب الانطلاق منه هو أن لا إمكانية لتوصيف ما ناله لبنان في مشروع الاتفاق بكامل الحقوق، والأفضل هو استخدام مصطلح كامل المطالب اللبنانية، لأن تحديد الحقوق بمعناها القانوني ليس متاحاً بهذه السهولة التي يمكن لغير ذوي الاختصاص البت بها، وأهل الاختصاص يعترفون بأن الأمر ليس بين أبيض وأسود، كما أنه لا يمكن تقييم مستوى وطنية تحديد المطالب اللبنانية، دون الأخذ بالاعتبار أن موقف لبنان القانوني في هذا الملف تعرض لاضطرابات أصابت صدقيته، تسبب بها أولاً الترسيم الذي قامت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 مع قبرص ونشأ منه الخط رقم 1 الذي اعتمده كيان الاحتلال في مقترحه الأصلي للحدود، ثم تسبب بها إيداع مرسوم اعتماد الخط 23 لدى الأمم المتحدة، بنية المسارعة في تصحيح الخطأ القاتل الناتج عن الترسيم مع قبرص، ومن ثم الكشف عن خط ثالث هو الخط 29 عند البدء بالتفاوض في الناقورة. هذا إذا كان المنطق قائماً على الانطلاق من أن الحديث يدور في نهاية الأمر عن التفاوض كممر إلزامي لإنجاز الترسيم، أما الذين يقولون برفض التفاوض فلهم أن يضعوا السقف الذي يعتقدونه للحقوق. وعندها الأمر مختلف عن الحدود البرية، بفعل الزمن الذي يشكل مروره عاملاً كافياً لاستهلاك مخزون النفط والغاز في الحقول، واستثمارها الأحادي من كيان الاحتلال، الا اذا قالوا إن على المقاومة بمعزل عن معادلات الداخل السياسي، ومعادلات التفاوض، ومن ضمنها الصدقية القانونية ودرجتها، وما يتصل بوضعية المعادلات الدولية والشركات القادرة على التنقيب، فتضع كل هذا وراء ظهرها وتعلن تبنيها خطاً للحقوق وتضع الحرب دونه ثمناً؟

السؤال الأول الذي يواجه دعاة هذا الخيار، الذي يشكل التتمة الطبيعية لمنطق كل الذي يجاهرون بدعم المقاومة، ويعترضون على مشروع الترسيم، هو هل تستقيم قاعدة التفكير هذه مع عدم مطالبة أصحاب هذا الخيار للمقاومة برفض وقف النار عام 2000 عند الخط الأزرق، فيما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من بلدة الغجر، من ضمن الحدود الدوليّة المعترف بها والموثقة لدى الأمم المتحدة، لأن المقاومة تدرك موازين الحرب وشروطها، والفرق بين التمسك بحقوق وبين إعلان الحرب الدائمة حتى التحرير الكامل وشروطه، فكيف إذا بالنسبة لما ليس معترفاً له دولياً أنه حقوق لبنانيّة، حتى لو اعتبرته المقاومة خلاف ذلك، ففي الحدود البريّة 31 قرية وبلدة تُسمّى قرى سهل الحولة وتعرف تجاوزاً بسبع قرى منها وتسمّى لذلك بالقرى السبع، وتضمنها إعلان دولة لبنان الكبير ضمن حدود لبنان، ثم سلخت عنه في اتفاقية باولو نيو كامب التي مهدت لنشوء كيان الاحتلال، وتأسست عليها الحدود الدولية المعتمدة، ورغم أن بين قادة المقاومة ومقاتليها كثير من أبناء هذه القرى، وهم لبنانيون يحملون الجنسية اللبنانية، لم تقم المقاومة بإضافتها الى المناطق المحتلة التي تعتبرها الدولة اللبنانية ويعترف العالم بأنها جزء من الأراضي اللبنانية، وفي الحالتين لم تعلن حرباً مفتوحة للتحرير.

هكذا يصير الخيار بين النظر لما تضمّنه مشروع الاتفاق بالمقارنة مع البديل الوحيد، وهو البقاء خارج أي اتفاق، فيما يقوم كيان الاحتلال بالاستخراج والبيع، ولو بقيت المقاومة قادرة على فرض منع الاستخراج من حقل كاريش، علماً أن أسباب التراجع الأميركي الإسرائيلي عن خط هوف والقبول بالمطالب اللبنانية، ليست محصورة بموازين القوى العسكرية، بل بالرغبة بالاستخراج من كاريش، في ظل أزمة الطاقة في أوروبا، ولا أحد يعلم ما يكون عليه الوضع إذا كان كاريش ضمن المطالب اللبنانية، لأن العرض الأميركي جاء تلبية لهذه المطالب وهي تضمنت الاستعداد لإزالة صفة الحقل المتنازع عليه عن كاريش (وهذه الصفة فرضها وجود الخط 29 على الطاولة) مقابل التسليم للبنان بالخط 23 وكامل حقل قانا، فهل يمكن للدعوة لحرمان لبنان من أي عائد من ثروات البحر أن تكون بديلاً وطنياً تحت شعار كامل الحقوق أو لا شيء، ما دامت للحرب المفتوحة شروط غير متاحة، على الأقل من وجهة نظر المقاومة، التي وضعت ضابطين لموقفها، ترسيم الحق اللبناني بسقف تضعه الدولة، ووضع قوة المقاومة سنداً لموقف الدولة واقتناص اللحظة لوضع فائض القوة المحسوب لفرض التراجع عن فرضية الحرب على كيان الاحتلال، عبر إعلان الاستعداد بالمخاطرة بخوضها.

أما الذين يقوم منطقهم على القول بأن لا قيمة لموقف المقاومة، وإن إيداع المرسوم معدلاً بالخط 29 كان كفيلاً بفرض الحقوق اللبنانية بصورة أفضل، فعليهم أن يقولوا لنا متى، بعد خمسين سنة أو مئة أو قرنين، لأن الحقوق المثبتة قانوناً التي تفرض الانسحاب الاسرائيلي من لبنان صدرت مكررة في القرار 425 عام 1978 وبقيت حتى العام 2000 حتى تحققت، ولولا المقاومة لما تحققت، ولو ترك الأمر للإيداع، لكان اليوم الاحتلال لا يزال قائماً، والفارق بين احتلال الأرض واحتلال البحر المليء بالثروات، هو أن الأرض باقية، بينما الثروات قابلة للاستهلاك.

يبقى الذين يقولون إن لبنان كان بالأصل حاصلاً على ما حصل عليه، وإن لا فضل للمقاومة، ويستغبون الناس بالحديث عن أن الموقف الأميركي كان بالأصل مع حصول لبنان على ما تضمنه مشروع الاتفاق، كما قال أمس رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع،بعيداً عنالعنتريات”. فهذا الاتفاق هو نفسه الذي كان منذ 10 سنوات وعنتريات” “حزب اللههي للاستهلاك المحلي، فهل يقرأ هؤلاء كلامهم أم أنهم لم يقرأوا أصلا عرض فريديريك هوف الذي يقوم على اقتطاع 400 كلم مربع شمال الخط 23، يحرم لبنان من البلوكات الغنية بالنفط والغاز 8 و9 و10، وحقل قانا ويمنحها للاحتلال، وإن هذا العرض بقي على الطاولة عشر سنوات، ولبنان يدفع نحو الانهيار وتحت الحصار حتى يرضخ ويقبل، وإذا أراد هؤلاء مزيداً من المعلومات فليقرأوا تهديدات ديفيد ساترفيلد الذي حل مكان هوف عام 2018، وقوله لا حل الا خط هوف والبديل لا شيء، بينما اليوم يأتي بديل آخر، حدد لبنان مضمونه، بعدما ثبت الرئيس بري بين العامين 2012 و2020 برفض خط هوف، فلحقت العقوبات معاونه السياسي علي حسن خليل، وصمد الرئيس ميشال عون منذ تسلم الملف فلحقت العقوبات برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.

هذا بديل صنع في لبنان، ووظفت في خدمته كل عناصر القوة والحنكة والقانون بما فيها مقترح الخط 29 وإعداد المرسوم تحت التوقيع، وفرض على الأميركي والإسرائيلي بحساب دقيق على حد السكين، رضي من رضي، ورفض من يرفض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى