أخيرةثقافة وفنون

*صديق ملتقى الأدب الوجيز. عبـور الدوائـر

} زياد كاج*

 تجربة الوجود لكل إنسان تعبُر في دوائر؛ تبدأ صغيرة ثم تكبر، لتعود إلى حجمها الأول حين يدنو الإنسان من الرحيل. رحم الأم دائرة الأمان والدفء والسلام الأولى، العائلة دائرة التفتح والوعي الثانية، ثم المدرسة دائرة الاحتكاك الأول مع الآخرين، فالجامعة الدائرة الأوسع والأكثر نضجاً، وأخيراً دائرة العمل والانفتاح على المجتمع الواسع والتنافس وصدمة الواقع كما يسمّيها علم الاجتماع الحديث. وكلما اتسعت الدائرة المحيطة بالإنسان، ازدادت ثقته بنفسه وتعدّدت تجاربه وتعلّم أن الجسور بين الناس هي للعبور والتواصل وليس للإحراق.

 اقترح عليّ صديق عزيز عُدتُ وتواصلتُ معه على «الفايس» بعد سنوات طويلة أن أكتب عن حياتنا وتجربتنا في الجامعة اللبنانية في أواسط الثمانينيات. والظريف أننا اكتشفنا بعد انتقالنا الى جسر «الواتس أب» أننا لا نزال على الجوهر والمبادئ نفسهما. معاً عبرنا المرحلة الرابعة من حياتنا وكانت لنا مغامرات وجلسات شعر ومناظرات وأحاديث طويلة قبالة صخرة الروشة في كوخ يديره شيوعيّ اغتيل لاحقاً. كنا نقصد المكان لدروشته ولشرب البيرة والتفلسف والمدينة للنقاش بكل مشاكلها وصراعاتها وعنفها الأعمى الذي خلي من كل مبدأ. صديقي الفلسطيني اليوم مهندس ميكانيكيّ ومدير شركة في الدنمارك. ونحن كنا زميلين في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية في منطقة الكولا الواقعة بين فكّي كماشة أقوى ميليشيات «المنطقة الغربية» في تلك الفترة في أواسط الثمانينيات قبل دخول الجيش السوريّ الى البلد وحلول ما عُرف بسلام «اتفاق الطائف».

 لحقني مفهوم الجسر الى هناك. «يا لحماقة وقصر نظر شاب لا يرى الدنيا الا بالأبيض والأسود؟». رغم ضخامة جسر الكولا المنبطح أمام الكلية، لم أنتبه في تلك الفترة العمريّة (وأنا في خضم الدائرة الرابعة) أن الجسور هي للعبور والوصل وليس للقطع والمشاكل. مبنى الكلية كان لافتاً بارتفاعه وخلفه كان يقع ملعب الصفا ومركز الثقل الشعبيّ لأحد الأحزاب، وأمامه كانت تطلّ جامعة بيروت العربية، والى الجهة الجنوبيّة على بعد مئات الأمتار، تربّعت المدينة الرياضيّة. يُقال إن تسمية منطقة الكولا تعود الى وجود مصنع لمشروب الكوكا كولا كان في المنطقة سابقاً. أمام مبنى الكلية (يشبه برج المر بلونه الرمادي غير المطلي) كانت حديقة وساحة كنا نتجمّع فيها خلال وبعد حصص الدراسة. وفي الشتاء كانت الكافيتيريا المغلقة تعجّ بنا حيث تحمُّل ضجيج أصوات الطلاب والطالبات يبقى أفضل من البقاء تحت المطر في الخارج. وجبتي المفضلة كانت سندويش جبنة قشقوان وكوب الشاي. الطاولات تتوزّع حسب الانتماءات الحزبية والطائفية والمستقلين وحسب ميول الطلاب واهتماماتهم. أنا كنتُ مع جماعة اليسار «ولو بشكل غير معلن» مع اعتراضي الدائم أمام الرفاق والرفقاء على تحالفنا مع الاشتراكي ضد أمل! المثالي وصاحب التجارب الحزبية السطحيّة يكون مزعجاً ومنزعجاً. صديقي الفلسطيني نصحني لاحقاً ولفت انتباهي لأمور لم أكن أعيرها انتباهاً.

 الأمر اللافت والمقلق في الكلية كان تلك الهوة الهائلة بين الشباب والفتيات في الكلية: 90 % ذكور و 10 % إناث!! مشهد الساحة التي كانت تضمّ مساحات مزروعة بحشيش طبيعيّ وزهور ومقاعد خشبية كان جذاباً: صبايا فاتنات قرعن باب الجامعة للحصول على إجازة وعريس محرز منها أو من خارج الكلية؛ وصبايا من جماعة تشي غيفارا (من شلتي الخاصة) يسخرن من الفاتنات ويهملن هندامهن عن قصد ويُكثرن التدخين وشرب البيرة في جلساتنا الخاصة. ووجد في كليتنا طالبات للعلم والدين معاً. محجبات ملتزمات وعلى درجات تتراوح بين الوسطيّة والتطرف مع مراعاة الحدود المذهبيّة المعترف بها مناطقياً ودولياً ودستورياً ووفق قانون الأحوال الشخصيّة. كشباب.. كنا ديوك المرحلة! خاصة أن عدداً لا بأس به من الطلاب كان ملتزماً دينياً ولا يقرب الجنس اللطيف إلا وفق قوانين «الكورونا» قبل ظهوره (التباعد الاجتماعيّ وعدم السلام باليد). خلت الساحة لأمثالي ولعدد من الأصدقاء. وجذبت الكلية ذكوراً من الخارج منهم الشاعر عبد الغني طليس الذي حضر بحجة صديقي ابن برج البراجنة.

 يلعب فارق العمر دوراً حاسماً في السلوكيات والمصائر والعلاقات. أحد الزملاء، كان أكبر مني وأتى من «دائرة أوسع»، لفت نظر فتيات الجامعة وكان نصيبه وافراً. خفيف الظل، يمتلك سيارة، مصروفه في جيبه، وكان قادراً على إضحاك الصبايا ولو في أحلك الظروف. مرة التهم بصلة نيئة أمامهن وعربش على العريشة المظللة للمقاعد. كان نصيبي مع شلة اليسار (ثلاث رفيقات جمعتنا السنديانة الحمراء والجيوب الفارغة) لأنني كنتُ أحبّ ارتداء الصندال مع الجينز وشرب البيرة وصورة تشي غيفارا. كانت صداقتنا جميلة عفويّة وكانت لنا صدامات مع الأحزاب الدينيّة والمذهبيّة ضمن ضوابط لأن الكفة سياسياً وعسكرياً بدأت تميل لمصلحتهم.

 في الجامعة عرفت الكثير من أنواع البشر: المغرور والمتشاوف، المتعصّب المحدود، الغبيّ الذي وصل الى مركز هام في الدولة، الطموح الأعمى الذي طلب يد الشحرورة صباح للزواج، الزميل العاطفيّ الذي أصبح روميو الكلية، والزميل الذي كان يحنّ لأيام صدام حسين، وطبعاً صديقي الفلسطيني المقيم اليوم في الدنمارك.

 كان صديقي مقاتلاً محترفاً مع جماعة فتحالانتفاضة. يقاتل ليلاً داخل مخيم برج البراجنة خلال ما عُرف بـ «حرب المخيمات» ثم يقصد الكلية في النهار. تمتّنت صداقتنا لاهتمامنا المشترك بالشعر ومحبتنا لمحمود درويش. نمتُ ليلة عنده في مقرّهم في مخيم مار الياس وسهرنا على قصيدة «مديح الظل العالي» لدرويش على صوت كاسيت سجّل في الجزائر. «مَن لا برّ له، لا بحرً له» أنشد درويش خلال انعقاد المؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ. صار صديقي جزءاً من شلة اليسار خاصتنا. لطالما تساءلت: كيف لا يطاله أحد والأجواء متوترة جداً بين أمل والفلسطينيين؟ كان أحياناً يغيب لفترات طويلة ثم يعود فاقداً المزيد من وزنه وهو نحيف كـ»عصا البليارد». شعب ثقلته التجارب ولا يملك ترفَ العيش. صديقي كان من فلسطينيي الداخل (كما عندنا بين سكان المدن والسهل)؛ كان من أصول ريفيّة عشائريّة.

 اشتعلت الحرب بين الميليشيات وتوقفت الدراسة. عند عودتنا وجدنا أن المبنى قد تضرّر ولا بدّ من ورشة لإصلاحه. المأساة كانت في مقتل الناطور المسكين الذي لم يكن له لا ناقة ولا جمل في معركة «داحس والغبراء» بين «الصديقين اللدودين». قرّرت الإدارة مشكورة تعليم ابنته مجاناً في الجامعة وإبقاء العائلة في مسكنها. تهجّرنا الى كلية الحقوق في الصنائع (المكتبة الوطنية اليوم قرب حديقة الصنائع). عرفنا مرارة التهجير لأشهر وعشنا الغربة مع طلاب كلية الحقوق الذين كانوا مسيّسين أكثر من طلاب الإعلام. يتمترسون في الكافيتيريا، فوقهم غُطَيطة من دخان السجائر، تحسبهم في مؤتمر لحل قضيّة الشرق الأوسط.

 عدنا الى الكلية في منطقة الكولا والعودُ أحمد. أذكر كيف هزّ الكلية والأجواء خبر اغتيال الرئيس رشيد كرامي وهو في الطوافة في الجو. فرغت الكلية من الطلاب والطالبات في أقلّ من ساعة. كان الخبر مزعجاً خاصة أن الرجل قُتل في الجو كأنه عصفور طائر. وفي السنة الأخيرة في الجامعة، سقط حفل التخرّج بسبب خلافات الأحزاب وبحجة أن الثوب «كنسيّ». صعدت الى طابق الإدارة وتسلّمت شهادتي في الصحافة بدرجة حسن. وقّعت وتركت الكلية للمرة الأخيرة. أهم ما تعلّمته في كلية الإعلام أن الصحافة خاصة في لبنان هي شطارة نسج علاقات وخبرة أكثر مما هي «شهادة» أحتفظ بها في البيت.

 خلال تواصلنا كاشفني صديقي عن تفاصيل لم أكن أعرفها سابقاً. عن حبّه لإحدى رفيقاتنا، عن إصابته في إحدى المعارك، عن سر ذكرياته في منطقة جبليّة اسمها شملان. وعن مأساة مقتل أخيه وترمُّل عائلته وقراره بترك البلد الى الدنمارك حقناً للدماء وبحثاً عن أفق أوسع. قال لي للمرة الأولى إنه قاتل سراً مع إحدى الميليشيات في حرب الجبل وأحياناً في بيروت. وأنه أنقذ الكثير من العائلات المسيحيّة من الموت المحتّم. «صدّقني يا أخي»، قال مكرراً ولولا مقاتلينا، لما كسبوا معركة بحمدون. نحن كنا نمشي في الطليعة وهم خلفنا. وطبعاً بفضل القصف والغطاء المدفعيّ السوري».

 سُعدت لإنجازات صديقي في الدنمارك وأنه وجد برَّه الخاص ولا يزال يأمل بالعودة الى فلسطين الحبيبة. فهو وضع البندقيّة جانباً وقفز من الإعلام الى الهندسة وأسس أسرة. ومن بيت أرضيّ في المخيم تدخل اليه كل أنواع الروائح، يعيش اليوم عيشة كريمة بعيداً عن كل مشاكل البلد والمنطقة. لم ينسَ قضية فلسطين ولا الشيخ إمام ولا «مديح الظل العالي» يدندن من بعيد على عوده في الشتات ويعزف ألحان العودة ليبقى قلبه دافئاً.

 من بلد الصقيع والثلوج والتكنولوجيا اللاهثة لا يزال صديقي صاحب اسم ورد في استغاثة امرأة عربيّة فعبر الزمن وتحوّل الى مضرب مثليحنّ الى شمس وفوضى هذا الشرقولم ولن ينسى أنه وُلد وعاش في مخيم برج البراجنة.

جميعنا نعبُر دوائردوائر البعض أصعب. «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها».

 

*روائي من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى