أخيرة

الحياة أعظم مدرسة مجانيّة مفتوحة

} زياد كاج*

 الحياة أعظم مدرسة مجانيّة مفتوحة على كل الاحتمالات؛ والقول ليس بجديد. أقساطُها من أيامنا وعمرنا وتجاربنا، وشهاداتها من احتكاكنا بالآخرين — أخوتنا البشر — فنتعلّم منهم ومعهم، ومن ظروف وتحديات ذاتية. ننضج ونكبر ونكتسب الحكمة وعلم التواصل الاجتماعي ومحبة الناس ولو اختلفنا معهم في رأي أو رؤية أو في علاقة مع السماوات العليا. والتجربة تكون أصعب، بل أكثر تحدياً، حين تكون مع من أولئك الذين أعلى منك رتبة في المسؤوليّة وسلم الإدارة.

سأروي تجربتي مع سيدة تعلّمت منها الكثير. مررت معها خلال 12 سنة بثلاث مراحل انتهت بصداقة ومحبة ومصالحة ردمت هوة الأجيال والاختلاف. معها تعلمت بطريقة زمنية تصاعدية بطيئة أن الاختلاف لا يقود بالضرورة الى خلاف، بل العكس. المرحلة الأولى اتسمت بسوء الفهم وما يشبه الرفض؛ الثانية تحوّلت الى القبول وبداية التفاعل الاحترافي والثقافي، والثالثة انتهت الى صداقة وتناغم على المستويات العملية والثقافية وحتى السياسية بعد أن اكتشفت مديرتي أننا ولدنا في اليوم نفسه. فصارت تحتفل وتجمع الزملاء والزميلات للاحتفال بعيد ميلادنا المشترك في 28 نيسان. نكتتها المفضّلة كانت: «أنا وأنت وصدام حسين خلقانين باليوم نفسه».

السيدة هيلدا نصار ابنة الجامعة الأميركية في رأس بيروت؛ والدها كان أستاذاً محاضراً في الجامعة. وشقيقها الدكتور نبيل نصار كان مدير «مركز عيادات الطب العائلي». العائلة من عين كسور في قضاء عاليه. عاشت في بيت العائلة في شارع المكحول القريب من مكان عملها: مكتبة صعب الطبية التي اعتبرتها بيتها الثاني. قرأت حزن الانكسار على وجهها مرتين: عندما تركت منزل العائلة التراثي في المكحول واضطرت للانتقال الى الأشرفية، وعندما تقاعدت من عملها في المكتبة. دعتنا الى ترويقة ملوكيّة في بيتها في عين كسور بقينا نتحدّث عنها حتى اليوم. ونحن – عائلتها الثانية —كرّمناها بحفل غداء وداعيّ في أوتيل قريب. كان الجو في الختام مؤثراً. كنا كعائلة واحدة في المكتبة الطبية رغم خلافات ومناكفات كانت تنهيها هيلدا بخفة دبلوماسيّة وبرضى الجميع.

إلى جانب السيدة عايدة فرحة، المميّزة والمتفوّقة علمياً وأكاديمياً وخلقياً، كنا مجموعة من الملل  كافة والمناطق كافة: أمين صليبا، الشيخ توفيق العريضي، رولا منيمنة، نينا بخعازي، نسرين داعوق، كمال العريضي، بشير الحاج، شفيق بلوز، ثم انضمّت الينا جويس عويس، دلال نوح، وسهى يزبك ونادين شجاع ومهدي جرادي وآخرون. وكانت لنا جيرة طيبة من العميد الدكتور قرطاس، والأساتذة نبيل منصور ومحمود حرب.

كيف وصلت إلى المكتبة الطبية وتعرفت الى السيدة نصار؟

كنت قد حرقتُ من شبابي 15 عاماً في مستشفى الجامعة الأميركيّة. مللت من روتين الوظيفة التي ترهق الأعصاب وسط المرضى والممرضات والأطباء. في جعبتي شهادة جامعية ونصف (صحافة وأدب أنكليزي) ولغتي ممتازة، لكنني كنت جاهلاً بالكامل بكل ما له علاقة بالكومبيوتر. كنت أخاف من هذه «الماكينة»! بفضل مساعدة صديقي العميد رياض حسن غندور الذي عرّفني إلى عديله الدكتور نايف سعادة الأستاذ المحاضر في كلية الطب وصاحب الشخصية الصلبة والطيبة. بمكالمة هاتفيّة بعد مقابلتي له، فتح الدكتور سعادة باب سجن «المستشفى» وأطلق سراحي. فرضني «بلطف ودبلوماسية» كمساعد للسيّدة نصار في المكتبة. حللت مكان شاب كان أفضل مني، لكنه لم يكن يحمل شهادة جامعيّة. تقبّلتني السيدة نصار وكان وضعي مثل عسكر طارق بن زياد. لا مجال للعودة الى المستشفى.

« في البداية اعتقدت أنك لن تنفع في هذه الوظيفة وكنت على وشك أن ارسل تقرير الى العميد»، صارحتني هيلدا في إحدى جلساتنا بعد سنوات في مكتبها. وهي كانت على حق. لأنني كنت «حمار» كومبيوتر. البرنامج كان بسيطاً؛ يتألف من ثلاث أو أربع نقلات كي أدخل المعلومة. كنت أنسى بسرعة. فأنا من جيل الورق. الأمر الذي اضطرها يوماً الى طباعة كل خطوة على ورقة ووضعها أمامي على المكتب كي أحفظها عن ظهر قلب. كانت محاولتها الأخيرة ونجحت. «حدا بيجيب الدّب ع كرمو».

 أصبح لي مكتبي الخاص الشاسع. الشبابيك الكبيرة تشرف مباشرة على الطريق والمستشفى من بعيد. لطالما نظرت عبر هذه الشبابيك شامتاً بمبنى المستشفى الذي قضيت فيه 15 سنة وتعلّمت منه أسرار عالم المستشفى ومفاتيحها. كما أنني كنت أول من ألمح السيدة نصار عائدة من فرصة الغداء من بيتها «المكّحولي»، فأعلن الاستنفار عبر الهاتف واُخبر الأصدقاء المقربين بالخبر الأمني العاجل. السيدة نصار كانت صارمة، لكنها صاحبة قلب طيب الى أبعد الحدود. لم تؤذِ موظفاً. كانت تنتمي الى المدرسة القديمة في الإدارة: «المدير دائماً على حق».

نحن عائلة «المكتبة الطبيّة» تعوّدنا على الأجواء التي فرضتها السيدة نصار. مظلة حمتنا من شمس الخارج. الحقيقة، أنني لاحظت أن وجودها – وإن كان فيه بعض من الصرامة — كان أفضل من غيابها الطويل (في سفر مثلاً). امرأة سافرت كثيراً؛ ومن ثقافات وعواصم العالم توسّعت أفاقها وثقافتها. كانت تقول لي إن السفر متعة وتعلم. «لو بقي من عمرك يوم، عليك أن تزور باريس، خاصة متحف اللوفر».

 رغم هروبي في الجامعة اللبنانية من اختصاص «علم المكتبات»، وجدت نفسي في مكتبة طبية! وظيفتي كانت الاهتمام بطلبات الكتب من مختلف الدوائر والتنسيق مع شركة «ليفانت» التي تستورد كل الكتب والمجلات على أنواعها من أوروبا وأميركا. تصل الكتب الطبية الكبيرة الحجم والثقيلة في علب كرتونيّة مع فواتيرها. علّمتني هيلدا كيف أتعامل مع الفاتورة وأحتسب كلفة كل كتاب مع الأخذ بعين الاعتبار الوزن والشحن. ارتكبت الكثير من الأخطاء في البداية. فترد الفواتير لي بواسطة نينا بخعازي وتطلب إعادة حسابها. الى أن أصبت بعقدة اسمها «الفاتورة». صحيح أنني نجحت بالنهاية وصرت «محترف» في الوظيفة (دائرة الاقتناء). لكن اتصالاً تلفونياً واحداً من نينا: «هيلدا بدها ياك»، كان يكهربني. صوت المرحومة نينا كان يحتوي على شحنة كهربائية مميزة. وأنا كنت متعاطفاً معها وكنا نشكو لبعض مشاكلنا الخاصة أحياناً. لاحقاً، تعلمت من السيدة نصار الدقة في العمل واحتساب قيمة الوقت. كنت بحاجة لأن آخذ الشغل بجديّة أكثر. كان رأسي يدور في عالم الثقافة والفكر والفن. وكان فيّ شيء من ترسّبات فوضى عالم المستشفى زمن الحرب. عملي في المكتبة منحني الثبات وزمالات لا أزال أعتز بها لليوم.

تحوّلت إلى وسيط ولعبت دور أصحاب «القبعة الزرقاء» بين السيدة نصار ونينا الرافضة لكل تطوّر. كنا في عصر المكننة في المكتبات ونينا كانت كثيرة التذمر. صرتُ شيخ صلح؛ ولا أنقل إلا الكلام الإيجابي. عقلي المهني كان مع هيلدا وقلبي بقي مع نينا. بعد تركها العمل، حلّت وسطنا الزميلة ندين شجاع وحلت معها بركة «عين عنوب». تزوّجت من زميلنا في الجامعة وجدي تيماني وكان عرسهما «مطنطناً» في أوتيل في بحمدون بحضور عائلة المكتبة. شربنا أطيب كأس على أصوات الموسيقى وقرب حوض السباحة. أنجبت زميلتنا 4 صبيان وبنتاً وكنت أمازحها: «بكرا يا بتعملي حزب.. أو بالانتخابات الكل بدهن رضاك».

 هيلدا نصار كانت سيدة علاقات عامة من الدرجة الأولى؛ بمساعدة السيدة عايدة فرحة، أدارت المكتبة الطبية باحتراف وكان همها متابعة آخر التطورات في علم المكتبات خاصة في مجال المكننة والبرامج الجديدة. جلبت الى المكتبة عدة محاضرين ومحاضرات، ومكّنتا من المشاركة في المعرض الطبي السنوي الذي كانت تقيمه الجامعة الأميركية كل سنة في ساحة مبنى أمام قاعة عصام فارس. وأيضاً فتحت لنا مجال المشاركة في مؤتمرات منظمة «إفلا» للمكتبات العالمية في بيروت.

 «لماذا لا تقرئين الصحف سيدة نصار؟»، سألتها مرة لأنني كنت ألتهم الصحف («نهار»، «سفير»، «ديلي ستار» وغيرها كل صباح) قبل حضورها الى المكتب. ولطالما تابعت أخبار البلد والشرق الأوسط من خلال قراءتي لمجلتي «التايمز» و»النيوز ويك» (بعد موافقة السيدة نصار). فوسط أكوام الكتب الطبية التي لا يفقهها إلا طلاب الطب، تحتاج لقراءة ما يهمك ثقافياً.

ضحكت هيلدا لسؤالي وأجابت: «أنا يا زياد بس بقرا أسرار الآلهة في «النهار»… كاريكاتور بيار صادق… وصفحة الوفيات».

 لم تكن بحاجة لقراءة الصحف. فتجاربها ومعرفتها لأحوال البلد والعالم أكثر مني كانت تعرف أن لا أخبار جديدة هنا. اللعبة ذاتها رغم تغيّر اللاعبين. يُضحكها بيار صادق، وهي تتابع صفحة الوفيات كي تقوم بواجب العزاء. هيلدا نصار تحبّ لبنان كثيراً. رغم مرارة التهجير، هي سامحت من احتلّ منزلهم وأرضهم في عين كسور. والمحتلون – المهجرون حافظوا عليه بفضل معروف قام به الشيخ توفيق العريضي. كل مناسبة عيد ميلاد ورأس سنة، كانت تجمعنا في قاعة الطعام على أكرم وأشهى غداء من أشهر مطاعم رأس بيروت. «ديك حبش» كامل الأوصاف ومسك الختام قالب كاتو «بوش دو نويل».

مع طول العشرة والشغل تحت إدارتها، تصالحت مع «مفهوم السلطة» الفوقية لأول مرة في حياتي المهنية. كانت لنا جلساتنا الجميلة والصادقة في مكتبها مما منحني الثقة بالنفس والتصالح مع الذات. كنا نناقش في كل شيء: في السياسة والثقافة والفن والسفر. ذواقة فن من الطراز الرفيع هي هيلدا. وهي تدرك ولا تكشف المستوى الفكريّ مع محاورها. مع الأيام، صار بيننا (على الأقل من جانبي) ما يشبه «الفهم ع الطاير».

 مرة سألتني مازحة: «ليك أنت وين منلاقي متلك؟»، بعد أن فشلت في استفزازي وهي كانت بارعة في هذا المجال.

فقلت لها ببرودة: «عند عقيل مسز نصار… عند عقيل».

ضحكت من قلبها. كانت تقدّر النكتة العفوية والطازجة.

«لا يمكنك أن تكون أكرم من الأنثى فإن أعطيتها الأمان كانت لك وطنا».

 كل المحبة والاحترام والوفاء للسيدة هيلدا نصار التي علمتني أن «كسر الجرار» من عادة….الـ….

 وإلى لقاء قريب في عين كسور.

*روائيّ من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى