مقالات وآراء

خلود الحب بين الواقع والأساطير

} سارة السهيل

الحب كالماء والهواء لا يستطيع الإنسان أن يحيا بدونهما. لذلك سطّر التاريخ حكايات وقصصاً شهيرة للمحبين والعاشقين، وإنْ تنوّعت مظاهر الحب للجمال الشكلي والروحي لارتباط هذا الحب بقيم ومعانٍ سامية كحب البطولة والفروسية والفداء والتضحية وغيرها.

كانت أول قصة حب للآلهة عشتار وحبيبها تموز، وهي أسطورة تسجل أول قصة حب مدوّنة في التاريخ في بلاد الرافدين، عندما وقعت عينا الراعي البسيط دموزي إله الطعام على سيدة الأنوثة والحب والحرب والخصوبة إيناناعشتار فأحبها من أول نظرة، وتقدّم لخطبتها، لكنها كانت مغرمة بفلاح يُدعى أنكي، وأمام إصرار تموز وافقت عشتار على زواجه منها، ورغم ما انتابت علاقتهما من مشاجرات بسبب شعور عشتار بعلوّ نسبها وتعاليها على تموز ولكنهما تزوّجا.

ووفقاً للأسطورة فقد قتل زوجها تموز، فحزنت عليه وقرّرت  النزول إلى عالم الموتى لترى تموز هناك مضحّية بنفسها،  فاستاءت الأحوال على الأرض وتوقفت وانقطع النسل، فأرسلت السماء أمراً إلى العالم السفلي بإخلاء سبيل عشتار وعودتها إلى الأرض لتعود الحياة مجدّداً.

وفي هذه الأسطورة نرى هذا الارتباط الوثيق بين المحبين مثلما يحدث في زماننا المعاصر، وأيضاً عندما نجد نوازع النفس البشرية وهي تتفاخر بنسبها أو حسبها وسلطانها على حبيبها، ومعاني التضحية والفداء التي تقدّمها عشتار بنزولها إلى عالم الموتى لترى زوجها تموز، نجد روافده بزماننا في وفاء المرأة العاشقة لزوجها وحبيبها بعد وفاته أو حتى فقدانه لأيّ سبب.

نموذج آخر للحب بين الأصدقاء جسّدته ملحمة الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك على نهر الفرات، فبعد موت صديقه أنكيدو حامي الحيوانات من الصيادين في الغابة، يُصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم ويرفض تصديق حقيقة موته ويأبي دفن جثته أسبوعاً كاملاً، حتى أخذت الديدان بالخروج منها، فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شارداً في البرية خارج أورك وقد تخلّى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات.

خاف جلجامش أيضاً من الموت، فبدأ رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية في شخصية «أوتنابشتم» والذي يعتبره البعض مشابهاً لشخصية نوح في الأديان اليهوديّة والمسيحية والإسلام.

وأثناء بحث جلجامش عن «أوتنابشتم» يلتقي بإحدى الآلهة واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ والتي بدورها أعطت  مجموعة من النصائح لجلجامش، مفادها أن يستمتع بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود، وأنّ عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيداً بما يملك، لكن جلجامش كان مُصراً على سعيه في الوصول إلى «أوتنابشتم» لمعرفة سرّ الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى الطَوَّاف أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى «أوتنابشتم» الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود، ولكن جلجامش يفشل في بلوغ هدفه ويموت.

وبرأيي لو أنّ جلجامش فطن الى حقيقة الخلود بمعناه الرمزي أنه يكمن في تواصل المحبين والعاشقين وتزاوجهم وإمدادهم بالذرية والأبناء لما خاض غمار رحلته في بحر الأموات ولأدرك حقيقة أنّ الخلود يكمن في الحب الخالد، وانّ الزهرة إذا جفت فإنها تنبت من داخلها زهرة أخرى حباً في الحياة وحباً في الحب نفسه.

فمن فقد صديقه المحبّب لقلبه يفتح قلبه على الحياة ليلتقي بصديق حبيب آخر، لأنّ الحياة متجدّدة، وكذلك الحب دائماً نجده إذا أخلصنا النيات.

فدائما نسمع عن قصة الحبيب الذي يطلب محبوبته للزواج بينما أهلها يرفضونه، ولكن إذا أخلصت الفتاة في حبها فإنها ستحارب من أجله، أما إذا لم تدافع عن هذا المحبوب وتتمسك به، فإنّ حبها مجرد كذبة.

وكم من قلب عاشق احترق وجْداً لأنّ محبوبته لم تتمسك به ولم تأخذ موقفاً مشرّفاً أمام أهلها للارتباط به.

الحقيقة انّ الكثيرين عندما يقعون في شباك الغرام قد يفقدون بعضاً من توازنهم العقلي إذا فقدوا أحبابهم، ويتناسون حقيقة انّ الله يختار لك الأفضل دائماً، فإذا  كانت هذه الفتاة التي تحبها هي نصيبك وهي الأفضل فسيجعلها الله تحارب من أجل أن يجمعكما الله معاً، فالطيبون للطيبات، وأما اذا كانت الفتاة غير مستحقّة لشرف الحب والطيبة، فسيبعدها الله عنك ليرزقك بالتي تستحق حبك.

وكما أقول وأردّد دائماً انّ الحب هو الحب الأخير الناضج، وليس الحب الأول الذي هو مجرد تجربة يتعرّف فيها الشباب على عالم الجنس الآخر، ويكون عادة مع أول شخص تراه عينك من الجيران أو المحيطين بك من الأقارب او حتى زملاء العمل، فقد عرفته فقط لهذا القرب المكاني، وليس لأنك اخترته او اختاره قلبك من بين هذا العالم الواسع .

فلتنبض القلوب بالحب، ولكن الحب الناضج والواعي الشريف النظيف ما أمتعه وما أدومه وما أخلده حين يشعّ في الإنسان نوره فيدفع به لتحقيق كلّ الأحلام والطموحات والنجاحات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى