أولى

استيراد المقاومة مشتقات النفط من إيران: تدشين لإصلاح النظام الاقتصادي قبل السياسي

 د. عصام نعمان*

حدثان مدوّيان سيطرا على أجواء دول غرب آسيا في الاسبوع الماضي: الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، وإعلان قائد المقاومة السيد حسن نصرالله استيراد مشتقات النفط من إيران وتسديد الثمن بالليرة اللبنانية بدلاً من الدولار الأميركي.

للانسحاب الأميركي انعكاسات سياسية واستراتيجية تمسّ جميع دول الإقليم لا سيما «إسرائيل». وقد تعددت التحليلات والتقديرات لدلالاته وتداعياته. اما استيراد النفط من إيران فقد انحصرت التحليلات والتقديرات بشأنه بالنواحي الأمنية: هل تردّ «إسرائيل» عسكرياً وأين؟ وكيف تردّ المقاومة، وهل يؤدي ردّها الى نشوب حربٍ اقليمية؟

قلّة من المحللين والمعلّقين تناولت الحدث من زاوية تأثيراته الاقتصادية مع أنه يؤشّر الى ظاهرة لافتة هي انه يشكّل أول محاولة جدّية هادفة لإصلاح الجانب الإقتصادي للنظام السياسي اللبناني. كيف؟

النظام الاقتصادي في لبنان يعتبره أربابه ليبرالياً حراً، بمعنى التفلّت من أي رقابة او تخطيط. خصومه يعتبرونه قائماً على توفير الخدمات، ولا يعير التخطيط والإنتاج اي اهتمام، لذا يتضاءل مردوده العام كلما انزلقت البلاد الى حال من التوتر والاضطراب الأمني او الحرب اذ يتدنّى حضور السياح وطالبي الخدمات، وانّ هذه هي حال لبنان الآن.

الى ذلك، ثمة مجموعة من أهل النظام الإقتصادي «الحرّ» تأذّت كثيراً من حال الاضطراب والتوتر والتفلّت الأمني. إنها شبكة أربابه ومستغليه من محتكرين ومصارف وتجار ووكلاء ووسطاء. هؤلاء جميعاً تضرّروا من حال لبنان المضطربة، لكن أضرارهم ستتضاعف، على الأغلب، إذا ما نجحت عملية استيراد مشتقات النفط الإيراني وتسويقها واجتذاب قسمٍ كبير من جمهور مستهلكيها بأسعار متدنية جداً. ذلك يتحقق من خلال التحوّلات الآتية:

اولاً، تقليص اعتماد لبنان بل تبعيته لدول الغرب. لبنان مرتبط عضوياً، منذ قيامه، بدول الغرب بكل ما له علاقة بالتجارة والتبادل والاستيراد والمصارف والاقتراض وفنون التسويق. لبنان، اقتصادياً، بلد غربي بامتياز. ومن شأن نجاح عملية استيراد النفط ومشتقاته من إيران تصديع علاقاته الاقتصادية بدول الغرب وإضعافها على المدى المتوسط والطويل.

ثانياً، نشوء مجموعة، وربما طبقة، جديدة من الوكلاء والوسطاء المختصين باستيراد النفط ومشتقاته من إيران وربما من غيرها أيضاً الأمر الذي يقلّص دور كبار المحتكرين والوكلاء والوسطاء ويقوّض سطوتهم على أركان النظام السياسي الطوائفي ونفوذهم الواسع في إدارات الدولة وأجهزتها.

ثالثاً، نشوء جمهور جديد واسع من المستهلكين جرّاء بيع مشتقات النفط الإيراني بالليرة اللبنانية، أيّ بأسعار أدنى بكثير من أسعار بيع المشتقات الأخرى الجاري تحديدها بالدولار الأميركي او ما يوازيه بالليرة اللبنانية بمعدلات صرف عالية جداً.

رابعاً، توفير مئات ملايين الدولارات على المواطنين (والسكان عموماً) وعلى خزينة الدولة نتيجَة شراء النفط الإيراني وبيعه بالليرة اللبنانية ما يعزز خصوم النظام الإقتصادي الليبرالي القائم على الخدمات ومطالبتهم بالتخطيط والعمل الدؤوب لبناء اقتصاد قائم على الإنتاج، لا سيما في حقول الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.

خامساً، اتساع جمهور مستهلكي مشتقات النفط الإيراني كما اتساع جمهور المستفيدين من الاقتصاد المنتج من شأنهما تعزيز القوى السياسية المطالبة بهدم نظام المحاصصة الطوائفي والضغط للشروع في إقامة نظام ديمقراطي مغاير ودعم الجهد الحضاري الرامي الى بناء الدولة المدنية الديمقراطية على اسس الحرية والعدالة وحكم القانون.

هذه التحوّلات الخمسة آنفة الذكر لن تنحصر مفاعيلها بالصعيد الاقتصادي بل ستتعداه الى الصعيد السياسي ايضاَ، لا سيما بما يتعلّق بتعزيز القوى السياسية المطالبة بالتوجه شرقاً، اي الى التعاون مع الصين وروسيا وإيران، من دون القطع بالضرورة مع دول الغرب.

من المفارقات اللافتة على هذا الصعيد انّ الولايات المتحدة التي توجّست من الانعكاسات الاقتصادية والسياسية لاستيراد مشتقات النفط الإيراني على دور حلفائها ونفوذهم داخل لبنان، سارعت الى إيفاد سفيرتها في بيروت لإبلاغ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن واشنطن قامت بالإتصالات اللازمة لتأمين تزويد لبنان بالغاز من مصر والكهرباء من الأردن عبر سورية. كل ذلك بقصد حمل اهل السلطة على رفض عملية استيراد مشتقات النفط من إيران. والغريب ان السفيرة الأميركية لم تُفصح للرئيس عون ولا لوسائل الاعلام كيف يتيسّر لواشنطن توصيل الغاز من مصر والكهرباء من الأردن الى لبنان عبر سورية بوجود «قانون قيصر» الأميركي الذي يحظّر ايّ تعامل اقتصادي معها. فهل استحصلت واشنطن من دمشق على موافقتها في هذا السبيل؟ وهل انّ انسحاب أميركا المهين من افغانستان وتداعياته السلبية على حلفائها الإقليميين سيدفعها الى إعادة النظر ببعض تدابيرها العقابية ضدّ دول وجماعات في المنطقة تعتبرها واشنطن معادية لسياساتها ومصالحها؟

لا غلوّ في القول إنّ ما ظهر حتى الآن من تداعيات انسحاب الولايات المتحدة من افغانستان لا يشكّل إلاّ رأس جبل الثلج، وانّ التداعيات التي ما زالت كامنة تحت سطح ماء الكتمان كثيرة وكبيرة ويمكن ان تفضي لاحقاً الى تحوّلات وازنة في علاقات واشنطن مع دول المنطقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى