أولى

يا شعبَ لبنانَ العظيم…!

 د. وجيه فانوس*

أن تتمكّن، على أرض فلسطين المغتصبة، وهي، أبداً الأرض الشّموس والأبيّة، الأظافر مع رموش العين، وبالتّنسيق الفذّ، لهذه الرّموش مع تلك الأظافر، والتَّلاحم الألمعيّ مع زخم الإرادة الصّامدة، والانطلاق الأساس من الإيمان المتأصِّل بالحقّ الذي لا يساوَم في الحريّة، من حفر نفقٍ للخلاص من سجن الأسر القاتل؛ فهذه بطولة كبرى.

وأن يكون حفرُ هذا النّفق، قد نهض على اختراق الإسمنت المسلّح بقضبان الصّلب، المدعّمة بالصّواعق الكهربائيّة القاتلة، والمزوَّد بأدوات استشعار الكشف عن دبيب النَّملة؛ فهذا ما يهدم، بكلّ وضوح، مَقُولَةَ «إنَّ العَيْنَ لا تُقاوِمُ المَخرَزَ»؛ ويُثبت، بكلّ حزم وعقلانيّة، المنطق التّحرّري لمقولة «ولِلحُرِيَّةِ الحَمْراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ».

أمّا الأشدّ روعةً والأكثر إبهاراً، في كلّ هذا، والذي يصل إلى حدود الإعجاز الإنسانيّ، أنّ أحداً من هؤلاء الأبطال الصّناديد الذين طلعوا من أسار ذلك السّجن الصّهيونيّ الإجراميّ، لن يحمل، أبداً، وخلافاً للعادة، لقب «الأسير المحرّر»؛ إذ هو، هذه المرّة، وبكلّ عَظَمَةٍ وفَخرٍ وشُموخٍ وبهاءٍ، «الفلسطينيّ الحرّ»، بجهدِ إرادته وحده، وهو «الحرّ»، العظيم والجبّار والمعطاء، بقدرته الباذخة الكرامة على نيل الحريّة.

انطلاقاً من هذه المسيرة السّامية، بجوهر إنسانيتها، والصَّادحة بالثّقة بالذّات، والعابقة بالظّفر الأبديّ لانتصار الحق؛ ألا يَحُقّ لكَ، يا «شَعبَ لُبنانَ»، وأنت على أرضك، أرض الأرز وبطولات التاريخ والعنفوان الشّامخ؛ ونحن جميعاً نعيش الآن هذا الزّمن العربيّ، لانتصار العَيْنِ على المخرز؛ بل ونحن نُعايِنُ، بجميع مداركنا، وبكلِّ صفاء، حقيقة منطق سيادة النّضال والجهاد وصوابيَّتها، في فتح مغاليق أبواب الحريّة؛ أن تكون، أنت، أيّها «الشّعب»، فعلاً، وليس بمجرّد القول، «شَعباً عَظيماً»؟

ما مِن فرد لبنانيّ مسحوق، وقد صار هؤلاء الأفراد اليوم الأغلبية السّاحقة من أبناء هذا الشّعب، إلا ويعيش الموت. يرتوي هذا اللّبناني، يوميّاً، من ذلّ موته حتّى الثّمالة، في انتظاره المُهلِك، عند طوابير محطّات توزيع الوَقود؛ ولا يلبث أن يشهد صاغراً، في كلّ لحظة، على انسحاق كيانه، وهو يبحث عن دواءٍ لمرضٍ مُستَعصٍ؛ كما لا يفتأ يتلاشى، كذلك، في دهاليز قهره، متسوِّلاً علبةَ حليبٍ لطفلٍ رضيعٍ؛ وها هو يخسر، بجدارة مطلقة، عِزّةَ كرامته الإنسانيّة، التي ائتمنه الله عليها، فيما يهرق عمره، مستجدياً بضع قروش، يشتري بها بعضَ ما يستر به ما يمكنه من عورات فقره.

أما يَحُقّ لهذه الغالبيّة العظمى، من الشّعب اللّبناني، أن تشعر وتعيش وتتحرّر، بقوّة أظافرها؟ وألا يسوَّغُ للبنانيين الأحرار، بعزم إصرارهم على ما تطبق عليه رموش عيونهم، من أحلام؛ وبصلابة عنادهم على ما يطمح إليه إيمانهم بحقّهم في الحياة الكريمة؛ أن يبدأوا حفراً، فرديّاً وجمعيّاً، لا هوادة فيه، في سبيل تحقيق صحيح وعادل لوجودهم الإنساني والوطني؟ أوليس، تالياً، من واجب كلِّ لبنانيٍّ وطنيٍّ صادقٍ، أن يبدأ مهمة الخروج من هذا النفق لخانة الإنسانية والوطنية، الذي نحن مسجونون فيه؟ ألا يكون من الوفاء الحقيقي والفعلي للبنان، أن يسعى اللبنانيُّون إلى الخلاص من ربقة انتماء، نشأوا عليه لزعيم، لا همّ له سوى مكاسبه الشخصية؛ ومن أسر ولاء لحزب، لا دَيْدَنَ له غير وصول قائده إلى عرش السّلطة؛ ومن ظلم معتقدٍ طائفيّ سياسيّ، لا رؤية عنده للوطن بغير استغلال الدّين وتشويهه؛ فما هذا كلّه إلاّ في سبيل خدمة مصالح لِعُصَبٍ سياسيَّةٍ، تمتهن الدّين، تحقيقاً لأطماعها البعيدة عن الدّين.

ألا يحقّ لكَ، أيّها اللبنانيّ، أن تكون «عظيماً»، بأن تكون حُرّا، بقوّتك وصبرك وإيمانك وعنادك؛ ومن دون أن تكون محرّراً، بمساعدة من خارج، أو بتدخّل من قوى أجنبيّة؟

أما آن للّبنانيّ أن يشتهي أن يكون «عظيماً»، بأن يعيش في بلده، متمتّعاً بجميع حقوقه وقائماً بجميع واجباته؛ لا لأنّه تابع لزعيم، أو لأنّه منتم إلى طائفة دينيّة، أو لأنّه مرتهن لقوّة خارجيّة؟

أما آن لهذا اللّبنانيّ، وبكلّ بساطة ووضوح وحزم وإيمان وإرادة، وبكلّ ما يقدر عليه من عزم أظافره؛ وبجميع أحلام الكرامة والحقّ لديه، هذه السّاهرة منتظرة تحت رموش عينيه؛ أن يكون «مُواطِناً»، في دولة «المُواطَنة»؟

كثيرون ينتظرونك، أيّها المواطن اللّبنانيّ العظيم، وينتظرون معك هذا الشّعب اللّبنانيّ العظيم، الطّالع إلى رحاب العزّة والكرامة والحقّ في الحياة، بقوّة أظافره وطموح أحلام رموش عينيه وعزم إيمانه بحقّه في الحياة وإرادته الصّلبة.

 يئسنا ترقّباً أجوف لتشكيلات وزاريّة بائسة، لن تُجْدي نفعاً وطنيّاً؛ وكفانا أحلاماً، ليست سوى سراب صحراء قاحلة؛ وفقدنا كلّ رجاء من  قيادات سياسيّة لا يمكنها أن تأبه إلاّ لأنانيّاتها التي لا تشبع.

أتراكَ، يا شعب لبنان، قادراً، بعد كلّ هذا، أن تكون شعباً عظيماً؛ أم أنك عديم الإرادة، خائر الطّموح، ميّت الأحلام، لا ثقة لك بوجودك إلا عبر ارتهانك لزعيم، أو انتمائك إلى طائفيّة سياسيّة، أو ارتهانك إلى خارج ترى فيه حقيقتك؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رئيس ندوة العمل الوطني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى