مقالات وآراء

إلى متى الرهان على بهلوانيات «الحاكم»؟

} أحمد بهجة*

تأكد المؤكد، وظهر جلياً خلال الأيام القليلة الماضية أنّ ما كنا نقوله ونعيده طيلة أكثر من سنتين هو الحقيقة بعينها. اليوم باتت اللوحة المالية المصرفية واضحة جداً أمام الجميع، وبالتالي لم يعد من باب التجنّي أو الظلم توجيه الاتهام وتحميل المسؤولية لهذا أو ذاك من المسؤولين الماليين والمصرفيين.

كان اللبنانيون ينتظرون أن تتحقق إيجابيات معينة في الأجواء السياسية، ثم البدء بتحقيق بعض الخطوات الإصلاحية، لكي ينعكس الأمر بدوره على الاقتصاد وتحديداً لوقف الانهيار المريع في سعر صرف العملة الوطنية التي قال كثيرون إنها أصبحت عملة وهمية، فيما معظم الناس، خاصة الغالبية الكبرى من الموظفين في القطاعين العام والخاص ليس لهم ملجأ سوى هذه الليرة التي تتدهور ويتدهورون معها بشكل وصل إلى درجة مأساوية لا توصف.

«فجأة» أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميماً حمل الرقم 161، والذي يسمح لأصحاب الحسابات بالليرة اللبنانية وللموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة بأن يحصلوا على دولارات مقابل ما يريدون سحبه على سعر منصة «صيرفة»، ومن ثمّ بإمكانهم بيع هذه الدولارات في السوق السوداء بفارق وصل أحياناً إلى نحو خمسة آلاف ليرة بالدولار الواحد.

الغرض من هذا التعميم كما قيل هو تخفيف حجم الكتلة النقدية بالليرة، وبالتالي لجم سعر صرف الدولار الذي عاود مسيرة صعوده مع بداية العام الجديد، وسجّل أرقاماً كارثية، حيث تخطى عتبة الـ 33 ألف ليرة.

أعطى التعميم مفعولاً أوّلياً وهدأ سعر صرف الدولار قليلاً، ثمّ أتى الاجتماع في السرايا الحكومية يوم الثلاثاء الماضي برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحضور وزير المال يوسف خليل والحاكم سلامة، ليسرّع مسار انخفاض سعر صرف الدولار، إذ صدر بيان عن المصرف المركزي بعد الاجتماع مباشرة ورد فيه أنّ «الحاكم» عدّل التعميم 161 وأدخل إليه بنداً جديداً يعطي الحق للمصارف في زيادة الكوتا التي يحقّ لها شهرياً سحبها بالليرة اللبنانية من مصرف لبنان، وأصبحت تحصّلها بالدولار الأميركي عبر منصّة «صيرفة»، وبدون أيّ سقف.

أدى الإعلان عن هذا التعديل إلى انخفاض سريع في سعر صرف الدولار ليصل إلى ما بين 26 و28 ألف ليرة، ثم انخفض يوم السبت إلى 25 ألف ليرة بعد الإعلان عن معاودة اجتماعات مجلس الوزراء من أجل إقرار الموازنة العامة للعام الحالي ومناقشة خطة التعافي المالي والاقتصادي التي سيتمّ التفاوض على أساسها مع صندوق النقد الدولي.

هذه التطورات فرضت على المتابعين طرح أسئلة عديدة أوّلها: من أين لمصرف لبنان هذه الدولارات التي يضخها في السوق؟ خاصة أنّ هناك من تحدّث عن مليار دولار قرّر «الحاكم» صرفها لدعم الليرة! وإذا كان ذلك صحيحاً فهل هذا المليار هو من الاحتياطي الإلزامي؟ بينما هناك مَن لا يزال يصرّ على أنّ هذا الاحتياطي تبخّر إما بالتهريب إلى الخارج بشكل مباشر أو من خلال برنامج الدعم الذي سمح بتهريب المليارات إلى الخارج لعدد محدود من التجار والمستوردين الكبار ومَن معهم من سياسيين ومصرفيين…!

أما المصدر المُناح للحصول على المليار دولار فهو عبر مطبعة الليرات الشغالة على الدوام في المصرف المركزي، حيث يستطيع «الحاكم»، خلافاً لقانون النقد والتسليف، طبع ما يشاء من الليرات دون حسيب أو رقيب، ليشتري بها دولارات من السوق ثم يعطي هذه الدولارات للمصارف التي تعطيها بدورها للمودعين والموظفين الذين يبيعونها للصرافين لكي «يربحوا» فارق السعر بين منصة صيرفة والسوق السوداء، وأخيراً يعود مصرف لبنان ليشتري الدولارات من الصرافين وأيضاً من خلال طبع المزيد من الليرات.

هنا يبرز أسئلة جديدة: إلى متى يمكن للمصرف المركزي أن يستمرّ بهذه اللعبة البهلوانية التي يتلاعب من خلالها بالعرض والطلب؟ وهل وجد «الحاكم» نفسه مضطراً إلى لجم سعر الصرف قبل الانتخابات بعد التصريح الغبي لرئيس حزب «القوات» عن قدرة فريقه السياسي على تعزيز وضع الليرة بعد الانتخابات؟

لا شكّ أنّ هناك أزمات اقتصادية ومالية كبيرة في البلد، لكن لا شكّ أيضاً أنّ ما حصل في القطاع المصرفي (الرسمي والخاص) بعد 17 تشرين الأول 2019، تمّ بتغطية سياسية داخلية وخارجية مكشوفة، ولا بدّ أولاً من محاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم التي حصلت بحق الناس جميعاً وخاصة بحق المودعين الذين فقدوا جنى أعمارهم، بفعل سمسرات وصفقات تمّت على حسابهم، وكلها كانت بمعرفة «الحاكم» وبتسهيلات منه، منذ أواسط التسعينيات يوم أوْصل الفائدة على سندات الخزينة إلى نحو 43 في المئة وصولاً إلى الهندسات المالية بين 2016 و 2018 والتي كلفت الخزينة العامة أكثر من 10 مليارات دولار، وكلّ ما حصل منذ ثلاثين عاماً وصولاً إلى تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج لمصلحة سياسيين وأصحاب مصارف ورجال دين وإعلاميين، باتوا معروفين للرأي العام، فيما المودعون الآخرون الذين يضطرون لسحب بعض الأموال من أجل تأمين معيشة عائلاتهم غير مدعوم من الحصول على حقه، وإذا استطاع سحب أيّ مبلغ من حسابه فإنه يخسر مقابله أضعافاً مضاعفة.

ورغم ذلك نرى أنّ هناك مَن لا يزال يحمي هذا «الحاكم» ويوفر له الغطاء في مواجهة أيّ تحرك قضائي يهدف إلى كشف الحقائق كما هي بشأنه وبشأن كلّ مَن استفاد من تعاميمه وسياساته وهندساته، لكن الوقت لن يطول وسوف يأتي اليوم الذي ينتهي فيه زمن الباطل…

*خبير اقتصادي ومالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى