أولى

تزييف الوعي والعبوديّة الطوعيّة في بلادنا!

 د. محمد سيّد أحمد*

ليست المرة الأولى التي أتحدّث فيها عن العبودية الطوعية، ومن المؤكد لن تكون الأخيرة، ولعلّ ما يثير الحديث اليوم عن هذا المصطلح هو ازدياد حجم العبيد الطوعيين في بلادنا بشكل مخيف، وفي كلّ مكان تذهب إليه؛ وهو ما جعلني أعيد التفكير والنظر مرة أخرى في هذا المصطلح، الذي أصبحت له شواهد وأدلة واقعية في كافة مناحي حياتنا اليومية. فالعبودية الطوعية مصطلح ظهر لأول مرة في كتابات الفيلسوف والمحامي والقاضي والكاتب الفرنسي «إتيان دي لابويسيه» منذ ما يقرب من خمسة قرون، وهو مؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وأول من أوجد النظرية الفوضوية، ولد لابويسيه في (1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1530) وتوفى في (18 أغسطس/ آب 1563) عن عمر لم يتجاوز 33 عاماً، لأسرة أرستقراطية وكان والده من رجال الكنيسة المهتمّين باللاهوت والأدب، وعلى الرغم من دراسة لابويسيه للقانون إلا أنه كان مولعاً بالشعر والأدب، لكن تظلّ مقالة «العبودية الطوعية» من أهمّ أعماله إنْ لم تكن الوحيدة التي اشتهر بها ليس خلال حياته القصيرة لكن بعد وفاته.

فمن الأرجح أنّ لابويسيه قد قرأ المقالة على بعض أقرانه في جامعة أورليان التي كانت ثاني أهمّ الجامعات الفرنسية بعد جامعة باريس، وأعجبوا بها واستنسخوها في ما بينهم لكنها لم تنشر حتى عام 1576 بعد وفاة لابويسيه، لكنها لم تلقَ اهتماماً كبيراً بسبب استتباب الحكم الملكي خلال القرن السابع عشر مما جعلها نصاً لا يلتفت إليه إلا قلة من القراء، وكان قدرها أن لا تظهر منشورة إلا في ظلّ مقالات صديقه الفيلسوف والمحامي والكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين أكثر الكتّاب الفرنسيين تأثيراً في عصر النهضة الفرنسية، ورائد المقالة الحديثة في أوروبا والذي ولد في (28 فبراير/ شباط 1533) وتوفى في (13 سبتمبر/ أيلول 1592) والذي نسب بعض النقاد المقالة إليه شخصياً، لكن في عام 1835 نشر النص منفرداً منسوباً لصاحبه وهو لابويسيه.

وفي مقالة «العبودية الطوعية» يهاجم لابويسيه النظام الملكي المطلق ويصفه بالطغيان ويدعو إلى مكافحة الديكتاتورية، وفي حديثه عن العبودية الطوعية يؤكد أنّ الطغاة لديهم السلطة لأنّ الشعب أعطاها لهم، فعندما يتمّ التخلي عن الحرية مرة واحدة من قبل الشعب، ويبقى متخلياً عنها حيث يفضل الشعب الرقّ على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع، وبالتالي يربط لابويسيه الطاعة والهيمنة معاً، وهي العلاقة التي كوّنت مع مرور الوقت النظرية الفوضوية، والتي تدعو لإيجاد حلول للتخلص من الهيمنة والانصياع ورفض دعم الطاغية، وبذلك أصبح لابويسيه أحد أقدم دعاة العصيان المدني والمقاومة بلا عنف، وهي ما نتج عنها ذلك الشعب الفرنسي الذي يرفض الهيمنة والانصياع للحاكم مهما تحققت له من سبل الرفاهية، فهو مواطن يطمح دائماً إلى مزيد من الحرية، ولديه من الوعي ما يمكنه من ممارسة العصيان المدني والمقاومة بالعديد من الطرق السلمية.

على العكس تماماً فإنّ العبودية الطوعية تنطبق على شعوبنا العربية كما طرحها لابويسيه خاصة عندما يؤكد أنه عندما يتعرّض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم وتتكيّف مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسمّيه «المواطن المستقرّ». وهذا المواطن المستقرّ لا يشتبك مع واقعه، وغير قادر على النقد، ولا يهتمّ بالشأن العام، ولا يتدخل في الأمور السياسية، وخاضع ومنصاع طوال الوقت لهيمنة السلطة الحاكمة، وغير قادر على المعارضة أو المقاومة، وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء هي (لقمة العيش والدين وكرة القدم).

وإذا كان المواطنون المستقرّون هم الغالبية العظمى من سكان مجتمعاتنا العربية الذين ارتضوا بالعبودية الطوعية، فهم بذلك يشكلون العائق الحقيقي أمام أيّ تقدّم ممكن، ولن يتحقّق التغيير سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي إلا عندما يخرج هذا المواطن المستقرّ من عالمه الضيّق ويثور على السلطة الأبوية، وعلى الأوضاع التي جعلته يدور في فلك العبودية الطوعية، هكذا صنع الشعب الفرنسيّ مجتمعه ولا يزال يصنعه، فرغم كلّ ما يُقال عن الحرية الوهميّة في المجتمعات الغربية إلا أنه لا يمكن بأيّ حال مقارنة وعي المواطن في الغرب، بوعي المواطن العربي المستقرّ الذي تلاعبت به قوى الشرّ خلال سنوات الربيع العربي المزعوم، وفي مقدمة المتلاعبين الآن وسائل الإعلام الجديد وفي مقدّمتها وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت إحدى أهمّ أدوات تزييف الوعي وصناعة العبودية الطوعية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى