مقالات وآراء

مدخنة «اليوردولار»…وتصاعد الدخان الأسود!

فاديا مطر

مع ازدياد إدراك المنطقة الأوروبية لخسائر دعم أوكرانيا والتي لم تجلب سوى المزيد من المشاكل والتدهور، يتفاقم ذلك الفهم العميق لما وصلت إليه المنطقة الأوروبية من مستويات سياسية واقتصادية متردّية لم تشهدها منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، فالتعب المرهق بدأ بالظهور خارج قشرة تلك المنطقة وبدأت معه فعلياً مشاكل نقص الطاقة والتضخم المالي ومشكلة نقص الغذاء وغيرها من التداعيات التي تهزّ عصب منطقة اليوردولار، حيث أنّ الدعاية الغربية لما كان قبل ما يقارب خمسة أشهر تتكلم عن أفول للعصر الروسي في غضون أسابيع معدودة كما كانت في بداية الحرب على سورية وإسقاطها بغضون أشهر قليلة، لكن النتائج أظهرت زيف تلك الادّعاءات بعد سقوط بعض أهمّ الحكومات الأوروبية تتالياً في منعطف الاستقالات السريعة والغير مبرّرة، لذلك كان التصويب الإعلامي على بدء انهيار عمود بايدن الأطلسي في أوروبا مؤشراً بالغ الأهمية في توضح سياسة منطقة اليورو وضعف الهيكلية العسكرية المغذية لأوكرانيا كجزء جيوسياسي تجنّدت له الدول الغربية بقيادة واشنطن، فالأخيرة باتت تحاول إعادة تأثيرها في المنطقة الشرق أوسطية مثل السعودية والحدود البحرية اللبنانية مع فلسطين المحتلة وتعكير صفو الجو العراقي كتعويض عما نجم من انهيارات جرّت إليها المنطقة الأوروبية في بقعة شرق أوروبا، وهو ما يظهر واضحاً من التخلي الأوّلي عن المعسكر الغربي في ما يدور فيه من استعصاءات حادة تجتاح منطقته العسكرية والسياسية وخاصة الاقتصادية، فهل ستتحمّل القاعدة الشعبية الأوروبية غطرسة القيادات السياسية كما تحمّلتهم في حربين عالميتين سابقتين؟

هذا مربط الفرس في ما تشهده أوروبا والولايات المتحدة في الخفاء، وهو الأمر المرتبط بالأشهر المقبلة إذا لم يفتح خط السيل الشمالي 1 الروسي قريباً، فلم يبق في متناول الغرب سوى العقوبات على المخزون النووي الروسي والذي كانت تستورد منه أوروبا ثلث احتياجاتها، والعودة إلى تعويض خسران الطاقة الغازية الروسية سيحتاج بحسب الخبراء الاقتصاديين من 2-3 سنوات على الأقلّ لبدء تعويض فقدان الطاقة الكهربائية في أوروبا، فهو الأمر المستبعد لقدرة التحمّل في الشارع الأوروبي لهذه المدة، حيث أظهرت خطة ما تسمّيه واشنطن «عقوبات اقتصادية» على روسيا ضعف الفكرة والتنفيذ لما يزداد من تنامي لغضب شعبي يتوانى الإعلام الغربي عن إظهاره خوفاً من تحوّله إلى مادة عالمية تطيح بحكومات كبيرة في الشارع الغربي

فزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآخيرة إلى إيران لن تشبه ما قبلها لجهة ما أطلقته من أوراق جيواقتصادية من ممرّ الشمال يربط الجنوب مع الهند والصين عبر إيران، وتوقيع قانون بشأن التجارة الحرة لإيران مع الاتحاد الآوراسي، إضافة إلأى استثمارات روسية بقيمة 7 مليار دولار في حقل أزاديغان النفطي الإيراني، مما زاد في تسريع سياسة البنك المركزي الأوروبي لمحاولة إبطاء الانهيار الاقتصادي الأوروبي على حساب ألمانيا بعد سقوط حكومة شولتس التي فشلت في مكافحة التضخم والتمرّد على البنك المركزي الأوروبي

فقد أدى رفع سقف الفائدة المتسارع في البنك المركزي الأوروبي لفترة مؤقتة إلى تعقيد وضع الديون، ولم يمنع نمو التضخم مما سيجعل دول الجنوب الأوروبي عرضة لاستمرار التضخم المالي على فترات طويلة ومهلكة، لذا فإنّ المبرّرات التي قدّمتها الدول الأوروبية لقاعدتها الشعبية في دعم أوكرانيا أظهرت جلياً أنّ العالم يدخل في مرحلة ما بعد «الغرب»، وأنّ حصة العقوبات المفروضة على روسيا حوّلت الصين إلى أهمّ شريك تجاري ومالي لروسيا ووثقت العلاقات الروسية الإيرانية، وهو الشكل الذي يتمّ فيه تدوير العقوبات الغربية الفاشلة للصالح الروسي الذي كشف حقيقة الغباء الجيوسياسي الغربي والذي ذكّر العالم بنهاية الحرب العالمية الثانية عندما هُزمت ألمانيا وحلفاؤها في إيطاليا واليابان وأفسحت المجال لهيمنة أميركية على الساحة العالمية آنذاك، واليوم فإنّ المسرح مفتوح لعصر روسي صيني في رسم ملامح عالم قطبي جديد على كافة المستويات، وقد بدأت روسيا بإنشاء أنظمة تسوية مالية محمية من التدخل الخارجي، وهو ما يجعلها قادرة على بناء هيكل مادي غير قادرة الاقتصادات الغير صديقة على التدخل فيه، مما يجعل الصورة واضحة بأنّ فشل العقوبات في تدمير روسيا جعل منها دولة تسجل فائض في التجارة بمستويات عالية وقياسية واستقرار للروبل وتنامي الاحتياطي النقدي والقدرة على تصدير النفط والغاز والحبوب والذهب، فهذا كله أوجد منطقة عالمية لم تتأثر بمؤثرات الميديا الغربية التي تجتاح حالياً الشارع الأوروبي الذي بدوره يرى مع توالي الأيام تصاعد «الدخان الأسود» من مدخنة منطقة اليوردولار التي تشهد انقسامات خطيرة بدأت من بروكسل والتي تجاوزت مجال الطاقة وضعف استهلاك للغاز وحوامل الطاقة إلى انقسامات في مجالات السياسة المالية والنقدية والقدرة على احتواء المهاجرين بين الشمال والجنوب في سباق محموم لتأخير الانهيار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى