أخيرة

نافذة ضوء

القومية الاجتماعية فلسفة حكمة الرقي الإنساني

‭}‬ يوسف المسمار*

 

لقد عرف العالم الفلسفة مع سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من التلامذة الإغريق الذين تعلّموا الحكمة في بلادنا في مدينة صيدا وعاشوا ردحاً من الزمن فيها، فأطلق عليهم اسم فلاسفة أي محبي الحكمة، ولكن بين الحكمة ومحبة الحكمة فرق كبير، وبالتالي هناك فرق بين الحكيم ومحبّ الحكمة كبير أيضاً.
فليس كل من يحب العلم عالماً، وليس كل من يحب الأدب أديباً، ولا كل من يحب الحكمة حكيماً، بل إن الحكيم هو الذي يحيا الحكمة فيتطهر بها ضميره، ويتألّق بها منطقه ويسطع بها تصرّفه ومعاملته للناس جميعاً ولا يخاطب بها إلا مَن يحترمها ويستحقّ سماعها فيتغذّى بها ويغذّي من يحبّها ليترسّخ وهج الحكمة ونورها بين الناس محبة وهداية وسلاماً.
وبهذا نفهم أهمية قول كبير الحكماء السيد المسيح، عندما قال:
«لا تتكلّموا بالحكمة أمام الجهّال فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم، ولا تكافئوا ظالماً فيبطل فضلكم».
بلادنا امتازت بالحكماء. والحكماء هم أصحاب الرسالات الكبرى والتعاليم الأرقى التي باتباعها وتحقيق مبادئها تتحقق نهضات الأمم. ولأن رسالات الحكمة تنبع من داخل الحكماء ولا يستوردونها من خارج نفوسهم فهم هم النهضة والناهضون. وهذا ما يفسر قول الأديب الفيلسوف جبران خليل جبران:
«كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً. وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضاً».
رغم تحوّل من ليس لهم نهضة ولا وطن بدون نهضة وبدون وطن، ورغم انهيار نهضة العرب وتخلّفهم عن أية نهضة حقيقيّة.
لم يكن همّ أنطون سعاده الفكر من أجل الفكر، والفلسفة من أجل الفلسفة، والعلم من أجل العلم كغيره ممن يطلق عليهم مفكرون وفلاسفة وعلماء، بل كان همّه تحقيق نهضة أمته لتكون مثالاً ونموذجاً في النهوض لغيرها من الأمم.
لذلك لم يكتف بنهضة أمته بل أراد أن تنتقل رسالة النهضة القومية الاجتماعية ومشروعها الى الأمم جميعها. ومن هذه الناحية أهتم بالفكر الذي يخدم العالم كله كما يخدم قضية أمته لأن من لا يقوم بخدمة قضية أمته لا يمكن أن يخدم أية قضية.
وقد سبقه الى ذلك رسل كبار من أمته دنيويون ودينيون في المعرفة والفضيلة والقانون والعلوم والفنون والآخلاقيات والتعاليم الروحانية الأخروية والدنيوية، حيث بدأوا أولاً في ترسيخ مفهوم رسالاتهم في أمتنا وبلادننا دون انغلاق، ثم انطلقت تعاليمهم الى الأمم ليأخذ منها كل شعب حاجته، وما يستطيع استيعابه، وما ينسجم ويتلاءم مع عقليته ونفسيته من تعاليمها وأفكارها وخواطرها وحكمتها الإنسانية العامة.
وهذا ما حصل أيضاً مع أنطون سعاده حين ابتدأ بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي على أساس حكمة الفلسفة القومية الاجتماعية والنظام القومي الاجتماعي على أساس الفلسفة المدرحية والنظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن بعد ملاحظته الدقيقة للفلسفات الجزئية التي قسمت العالم الى محورين متناقضين متحاربين مكفّرين بعضهما البعض، ومتمترس كل منهما بفلسفة جزئية: واحدة فلسفة فردية مادية وأخرى فلسفة جزئية فردية روحية سببتا دماراً هائلاً للبشرية ولا تزالان حتى وقتنا هذا متعنتتين بسبب شوفينية كل منهما، ومبتعدتين عن حقيقة الحياة الإنسانية وحقيقة النمو والارتقاء الإنساني الذي لا يمكن أن يكون مادياً بالمطلق ولا روحياً بالمطلق بل يقوم على أساس واحد واضح مادي – روحي أو روحي – مادي دون تجزئة الحياة الإنسانية بين المادة والروح، بل بضرورة الوحدة المادية – الروحية أو باصطلاح واحد هو «المدرحية» أو «الروحمادية» التي تعني حقيقة الإنسان في الوجود أو الوجود الإنساني الذي يستحيل وجوده روحاً فقط بدون مادة أو مادة فقط بدون روح لأنه وجود تفاعل موحّد نشوءاً ونمواً وارتقاءً وبقاءً.
وهذا ما قاله أنطون سعاده عن المذهب الفلسفي القومي الاجتماعي في خطابه في الاجتماع القومي الاجتماعي في نادي شرف ووطن في بوانس ايريس الأرجنتين في شهر كانون الأول سنة 1939 ونشر في صحيفة الزوبعة:
«إن في سورية اليوم نهضة عظيمة تعيد إلى الأمة حيويتها لتعود الى الإنتاج والعطاء كما كانت تنتج وتعطي في الماضي. إن سورية تحمل اليوم الى العالم بنهضتها القومية الاجتماعية رسالة جديدة. إن النهضة السورية القومية الاجتماعية تعلن ان ليس بالمبدأ المادي وحده يُفَسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظام عام ثابت في العالم، وإنه ليس بالمبدأ الروحي وحده يحدث ذاك.
إننا نقول بأن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامع – بفلسفة جديدة تقول إن المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم.
من هذه الحكمة الضرورية لنهضة الأمم والتي لا غنى عنها لسلام العالم الإنساني وارتقائه انبثقت فلسفة القومية الاجتماعية بالنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن لتكون فلسفة إنعاش حيوية جميع الأمم، والدافع الى تحقيق نهضاتها المؤدية حتماً الى:
«إنشاء عالم جديد من الفكر والشعور، إذا لم يكن هو العالم الأخير، الأسمى على الإطلاق، عند المشككين، فهو عالم فوق العوالم الماضية ودرجة لا بدّ منها لاطراد ارتقاء الإنسانية النفسي».
كما ورد في كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري لأنطون سعاده.
*باحث وشاعر قومي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى