الوطن

الولاية المنتهية للرئيس ميشال عون: ما له وما عليه

‭}‬ د. عدنان نجيب الدين
مع نهاية شهر تشرين الأول لعام ٢٠٢٢ أسدل الستار على ست سنوات عاشها اللبنانيون في ظلّ ولاية الرئيس العماد ميشال عون، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان الحديث لا تبدو فيها آفاق الحلول للأزمات المزمنة في هذا البلد واضحة، فالخوف من المجهول يسيطر على اللبنانيين لأنّ الخلافات بينهم جذرية وعميقة إلى درجة أنّ البعض راح يطرح مشاريع تقسيمية قد تنذر بما هو أسوأ.
وقبل البدء في محاولة استشراف آفاق المستقبل وإمكانية إيجاد الحلول لا بدّ من التوقف قليلاً عند هذه المرحلة من ولاية الرئيس ميشال عون بما لها وما عليها من دون تعصّب أعمى ضده أو انحياز له، مع التعالي قدر الإمكان عن الضوضاء الإعلامية المحقة منها وغير المحقة، بل مجرد قراءة وتقييم للمفاصل الأساسية التي حكمت تلك المرحلة.
أولاً، من الإجحاف القول إنّ ما حصل من أحداث وتطورات في هذه الحقبة الزمنية من ولاية الرئيس المنتهية صلاحيته، يتحمّل مسؤوليتها وحده، لأنّ الصعوبات التي واجهها من فساد مستشر، وضغوط خارجية، وأهواء بعض المستشارين المحيطين به جعلته يتعثر في مسيرته ويتعثر معه لبنان بحيث أصبح شعاره التغيير والإصلاح متعذراً تحقيقه.
وهنا لا بدّ من تأكيد المؤكد وهو أنّ الأزمات لا تأتي إلا نتيجة تراكمات حكمت سنوات ما بعد إقرار وثيقة الطائف، التي أوقفت الحرب الأهلية ولكنها أخذت لبنان إلى اللااستقرار، بسبب الثغرات والعيوب التي اعترت هذه الوثيقة، فكان من نتيجة الممارسات الخاطئة والمنحرفة للسياسيين الذي تعاقبوا على مسؤولية الحكم طيلة أكثر من ثلاثين سنة تشريع الأبواب على مختلف أنواع الفساد والعبث بالدستور، وأصبح من يتولى المسؤولية سواء في الحكومات أو في الإدارات محكوماً بأمور منها: إما المشاركة في الفساد والاستفادة من فرصه المتعددة، وإما السكوت على ما يقترفه الفاسدون، أو المواجهة بإعلاء الصوت والتقدّم بملفات الفساد إلى القضاء المعروفة حالته الراهنة، وإما الاستقالة والنضال من خارج إطار السلطة.
وبما أنّ السلطة غرارة كما كان يقول رئيس الوزراء الراحل صائب سلام، فقد شارك معظم المسؤولين في الهدر والفساد، طالما أنّ المجلس النيابي لم يحاسب يوماً أية حكومة بل أيّ وزير، إذ كيف للمجلس أن يقوم بهذه الوظيفة التي نصّ عليها الدستور إلى جانب أمور أخرى، وكله أو جله يتمثل عبر كتله البرلمانية في الحكومات؟ مما جعل النظام الديموقراطي البرلماني أعرج ولا يستطيع منع الفساد ومحاسبة الفاسدين.
ثانياً، انّ صلاحيات رئيس الجمهورية أصبحت محدودة بعد اتفاق الطائف، فهو يشارك في تأليف الحكومات لكنه لم يعد يعيّن الوزراء ويختار من بينهم رئيساً كما كان الأمر قبل اتفاق الطائف. وأصبح لا يستطيع إقالة الحكومات مهما تقاعست، ولا يستطيع حلّ المجلس النيابي… إذن أصبح عاجزاً عن أداء دوره، او أدّت التناقضات في ما بين كتله إلى توقف عجلة الدولة. وهذا ما يفسح المجال للمناكفات والنكايات والتحاصص، وصار لكلّ زعيم طائفي حقّ الفيتو على أيّ قرار، مما جعل الحكومات تفقد فعاليتها وإنتاجيتها وهذا ما سبّب عرقلة عملها نتيجة الأنانيات والأطماع الشخصية وعدم الشعور بالمسؤولية الوطنية، وذلك ما شهدناه في ملفات عديدة أهمّها ملف الكهرباء، وملف التدقيق الجنائي والكابيتال كونترول واستيراد المحروقات وغيرها، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه مما كلف الخزينة هدراً بعشرات مليارات الدولارات.
ثالثاً، لقد فشلت كلّ الحكومات السابقة على الحكومات التي حكمت قبل ولاية الرئيس عون في إقرار سياسة اقتصادية تقوم على الإنتاج بدل الريع، وكان حاكم البنك المركزي شريكاً أساسياً في هذه السياسات، فوصلت العملة اللبنانية الى الدرك الأسفل وانهارت أمام الدولار وانعكس هذا الانهيار كوارث جمة على اللبنانيين لا سيما ذوي الدخل المحدود، وكان الفساد معششاً في كلّ الوزارات وجرى نهب الدولة بمبالغ كبيرة يتعذر تقديرها.
هذه الظروف وغيرها جعلت فترة حكم الرئيس عون فترة انهيار وعدم إنتاجية إلا في بعض الأمور الاستراتيجية، ومنها:
1 ـ أخذ القرار الحاسم بخوض معركة الجرود ضدّ التنظيمات الإرهابية التكفيرية إلى جانب المقاومة، مما خلص لبنان واللبنانيين من شرور هذه الجماعات التي بدأت تدخل إلى الأراضي اللبنانية للسيطرة عليها وضمّها إلى دولتهم المزعومة، فراحت تقتل الجنود أو تختطفهم، وتقوم بوضع العبوات التي تنفجر بالمواطنين الأبرياء.
2 ـ رفض ضغوط الجهات الدولية ومطالبة لبنان دمج السوريين والفلسطينيين بالمجتمع اللبناني مع كلّ المخاطر المترتبة على لبنان واللبنانيين.
3 ـ العمل بجدية للوصول عبر المفاوضات غير المباشرة إلى اتفاق بشأن التنقيب عن الغاز والنفط في مياهنا الاقتصادية، وإنْ كان هذا الاتفاق لم يرض شريحة من اللبنانيين بسبب عدم تحصيله كامل حقوق لبنان القانونية في ثروته البحرية.
أما الملاحظات التي من الممكن تسجيلها على ولاية الرئيس عون فيمكن تلخيصها بالآتي:
أولاً، ربما كان على الرئيس ميشال عون أن يتبع سياسة فيها الكثير من الحكمة، لأنّ السياسة فنّ الممكن دون التخلي عن المبادئ، وفشلت مقارباته للمشاكل السياسية في البلد، لا سيما وقف مزاريب الهدر والفساد ووضع حدّ لشهوات الفاسدين الذين تجذروا في الحكم والإدارة، فجاءت الطريقة التي قارب فيها هذه المسائل صدامية الى الحدّ الكبير، مما جعله يقف عاجزاً عن فعل ايّ شيء مؤثر، لأنّ الأمواج عاتية، والقارب الذي يقوده ضعيف ولا يقوى على مواجهتها، فانكسر القارب وتصدّع، وحمّله الجميع مسؤولية الغرق.
ثانياً، كان على الرئيس عون أن يستفيد من فترة ولايته، ليدعو مجلس النواب إلى المباشرة فوراً في ولوج الباب لتطبيق ما لم يطبّق من اتفاق الطائف، وهي من أهمّ البنود التي جرى إسقاطها عملياً من الزعماء السياسيين: انتخاب مجلس الشيوخ، والبدء بتنفيذ بند اللامركزية الإدارية، وإقرار قانون الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي وإيجاد قانون جديد للأحزاب، وعندها ليتحمّل كلّ زعيم سياسي يرفض تنفيذ هذه البنود المسؤولية أمام الشعب اللبناني، وليصارح اللبنانيين بأسباب رفضه لتنفيذ الوثيقة الدستورية وليأخذوا منه موقفاً عقابياً.
ثالثاً، ليس مفهوماً لدى كثير من اللبنانيين كلّ المناكفات الناتجة عن عملية التحاصص في تأليف الحكومات والتعيينات، فطالما أنّ السلطة الإجرائية منوطة بهذه الحكومات، فلتتحمّل هي وحدها المسؤولية أمام الشعب اللبناني الذي عليه محاسبتها ومحاسبة النواب الذين لا يحاسبونها.
رابعاً، كان شعار الرئيس عون الإصلاح والتغيير، لكن الإصلاح والتغيير لا يأتيان إلا عبر دولة مدنية علمانية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات وخارج النظام الطائفي، فلماذا جرى التخلي عن ذلك وراح هو وفريقه ينغمسان أكثر فأكثر في الوحول الطائفية والمحاصصة المذهبية التي أفسدت الحكم والإدارة، علماً أنه لو ذهب بالاتجاه الصحيح ايّ النضال من أجل بناء الدولة المدنية العلمانية، لحصل كلّ مواطن، إلى ايّ طائفة أو مذهب انتمى، على حقوقه كاملة، لأنّ المعيار سيكون الكفاءة والنزاهة.
ويبقى دائماً السؤال مطروحاً عليه وعلى كلّ الزعماء الآخرين: هل تتحقق حقوق المواطنين في التعليم وفرص العمل والاستشفاء والخدمات كافة من خلال زيادة عدد الوزراء أو النواب لدى كلّ طائفة في تشكيل الحكومات؟ وقد أثبتت التجارب أنّ المواطن لا ينال حقوقه إلا في إطار نظام حكم منتج اقتصادياً ورشيد اجتماعياً يوفر حياة كريمة لأبنائه ويحدّ من هجرة الكفاءات والطاقات الشبابية إلى الخارج. ماذا نفع المسيحيين حصول التيار الوطني الحر على عشرة وزراء في إحدى الحكومات السابقة، والبلد غارق بالفساد ومفتقر إلى كلّ الخدمات الضرورية لحياة كريمة؟ وهل هكذا نؤمّن للشعب اللبنانية حقوقه ونحمي سيادته ونقول جيشه؟
خامساً، كان من المفترض، وبعد معركة فجر الجرود، أن يدعو الرئيس إلى طاولة حوار لأجل إقرار سياسة للدفاع الوطني تطرح فيها مسألتان: تسليح الجيش اللبناني بأسلحة ثقيلة ورادعة للعدو «الإسرائيلي»، وبحث مسألة وجود المقاومة كقوة رديفة تعضد الجيش وتتكامل معه بحيث يصبح لبنان عصياً على أيّ محاولة للمسّ بسيادته وامن مواطنيه.
ختاماً… لقد أثبتت تجربة حكم الرئيس العماد ميشال عون انّ التغيير والإصلاح من داخل النظام متعذران، وبالتالي لا يمكن لأيّ طامح لتحقيق هذين الهدفين الانخراط في السلطة والخروج منها بنتائج إيجابية، بل على العكس من ذلك ستجعله شريكاً في المنظومة الحاكمة يتحمّل معها أوزارها، فترمى عليه كلّ المسؤوليات وتجعله يتحمّل كلّ الموبقات، وقد تفتح السلطة لدى بعض الطامحين من الحواشي أبواب الانخراط بالفساد لأنّ طبيعة هذا النظام تسمح بل وتغري أصحاب النفوس الضعيفة بذلك.
ومع ذلك نقول: علينا ألا نغفل أنّ حقبة ولاية الرئيس ميشال عون ليست منفصلة عما قبلها، بل هي حلقة في سلسلة حلقات السياسات القائمة في لبنان منذ تأسيسه، وهي بإخفاقاتها وإنجازاتها ستؤسّس حتماً للبنان جديد، لكنه لن يُبنى على التسويات المعهودة التي تؤسّس للأزمات والحروب الأهلية والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، بل يجب أن يُحكم لبنان بنظام ديموقراطي حقيقي ورشيد، وعلى اللبنانيين أن يعدّلوا دستورهم لينص صراحة على المساواة بين مواطنيه في الوظائف والمناصب، وفي الحقوق والواجبات، وإلغاء نظام الامتيازات والمحاصصات الطائفية، واعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة والمواطنية الصحيحة، ويكون هذا الدستور أساساً لبناء دولة حديثة فاعلة ومحترمة من قبل مواطنيها، دولة القانون النافذ، والشفافية الحقيقية، وتخضع سلطاته للمحاسبة القضائية والشعبية مما يضع حداً للفساد والفاسدين.
إنّ دولة الحق والعدالة والرعاية الاجتماعية والتقدّم والازدهار يجب أن تنبع سياساتها من مصالح شعبها وسيادتها على أرضها، دولة تدافع عن شعبها بقوتها الذاتية وباقتصادها المنتج، وعلينا اعتماد سياسات تعليمية تؤسّس لاقتصاد المعرفة، وانتهاج خطط تربوية تثقف أجيالنا الصاعدة بثقافة المواطنية الصالحة واحترام القانون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى