مقالات وآراء

حرب الأيقونات: نائل الفرنسي ومهسا الإيرانية نموذجاً

د. علي أكرم زعيتر

قبل أيام، قُتل فتى فرنسي من أصول جزائرية، لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، لمجرد أنه لم يمتثل لأوامر الشرطة الفرنسية. مطاردة مثيرة، دامت لأكثر من عشرين دقيقة كان بطلَها رجلا شرطة فرنسية، فيما كان ضحيتَها شاب يافع لم يكد يبلغ الحلم. ذنب الفتى ـ واسمه نائل المرزوقي ـ أنه من أصول عربية ومسلمة، وأنه من ذوي البشرة السمراء. ما دام كذلك، فهو مشتبه به في نظر القانون الفرنسي، ولا بأس بتصفيته لمجرد الشبهة.
حاولت وسائل الإعلام الفرنسية أن تخفف من هول الفاجعة، تارةً بزعم أنّ الفتى من أصحاب السوابق، وتارةً أخرى بدعوى أنه لم يمتثل لطلب الشرطة بالتوقف. ولكن غاب عن بال الإعلام الفرنسي مُسبق الدفع، والمنحاز بغالبيته لفكرة تفوّق الرجل الأبيض، أنّ العين التي تتغاضى عمَّا لا يحلو لها، ولا ترى إلا من زاوية واحدة، حُلَّ فقؤها!
سرعان ما تبيّن بنتيجة التحقيقات الأولية، أنّ الشاب بريء من كلّ التهم التي ساقها بحقه الإعلام المأجور، وأنّ كبرى تجاوزاته كانت عدم حمل رخصة سوق. هذا كلّ ما في الأمر! فلا ندري منذ متى كانت أمّ الشرائع في العالم (فرنسا) تجيز تصفية مواطنيها لمجرد أنهم لا يحملون رخص قيادة، ولا يمتثلون لأوامر الشرطة، أو لا يتوقفون على الحواجز!
إنّ حكومة ماكرون التي ظلت عاكفة على إدانة حكومة السيد رئيسي في طهران، بدعوى التسبّب في مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، بل ولعبت أدواراً مكشوفة في تحريض الرأي العام الإيراني، عبر الإيعاز لإعلامها المأجور بتسليط الضوء على هذه الحادثة العرضية، هي نفسها اليوم ـ أيّ حكومة ماكرون ـ تتهم المتظاهرين في ضاحية نانتير الفرنسية بالتخريب والاعتداء على المرافق العامة، وتهديد السلامة العامة، ومخالفة القوانين!
إنها لمن المفارقات العجيبة التي لا يمكن أن تمرّ على المرء مرور الكرام! لم يبقَ دائرة حكومية، أو مؤسسة إعلامية في فرنسا وعموم أوروبا إلا وأدانت حادثة مقتل الشابة الإيرانية، والتي أثبتت التحقيقات اللاحقة أنها توفيت بشكل عرضي، وأن الشرطة لم تتسبّب بمقتلها على الإطلاق.
يومها خرج ماكرون على الإعلام ليحدث الإيرانيين حول ضرورة احترام حقوق الإنسان، وحول وجوب صون حرية التعبير، فإذا به اليوم يتجرّع من نفس الكأس. حَسِبَ ماكرون وقتها أنّ بمقدوره أن يجيِّر حادثة مقتل أميني من أجل تأليب الرأي العام الإيراني ضدّ الحكومة الإسلامية في طهران. لقد وجد في تلك الحادثة فرصة مؤاتية للانتقام من طهران.
يبدو أنّ ماكرون قد قرأ كتاب القطوف الدانية من قبل، ولكن على ما يبدو لم يتدبّر معانيه جيداً، أو لعله نسي القاعدة التي تقول، إنّ قطف الثمار في غير موسمها ليست فكرة سديدة!
من يحاسب الشرطة الفرنسية على جريمتها النكراء هذه؟ ومن يعيد الروح لنائل المرزوقي، الطفل المسكين الذي كان يكدُّ ليل نهار من أجل تأمين قوت يومه، له ولوالدته المفجوعة؟ من يكفكف دموع الأم الثكلى ومن يبرّد قلبها؟ هل بوسع الديمقراطية الفرنسية أن تعيد ما سلبه القدر؟ أم هل يرجع مبدأ فصل السلطات، واحترام القضاء، ونفاذ القانون الضحكة البريئة التي خطفها رجُلا شرطة عنصريان يؤمنان بتفوق العرق الأبيض، وبوجوب (تطهير) فرنسا من الوجود الأجنبي، وإعادة المهاجرين إلى حيث أتوا؟! من يفعل ذلك؟
هل انتقادات فرنسا المتكررة لدول مثل روسيا وإيران وسورية وكوبا والجزائر والصين ستعيد للقانون الفرنسي هيبته المهروقة على أعتاب ذلك المراهق البريء؟
اليمين المسيحي المتطرف الذي بدأ يرخي بظلاله على أوروبا منذ نحو ربع قرن، كشف لنا الكثير من عيوب الحضارة الغربية!
لقد أماط هذا اليمين المجرم اللثام عن وجه الغرب الحقيقي، فبانت عورته، ولم يعد من سبيل إلى توريتها. ما عادت أوراق التوت تجدي نفعاً، ولا مساحيق التجميل!
على أوروبا وأميركا أن تخلعا القناع الذي ظلّ لسنين يخفي ملامحهما الحقيقية! آن لشعوب دول العالم الثالث أن ترى زيف الشعارات التي يتلطى خلفها الغرب، وأن يدرك المصابون بعقدة النقص، والمرضى النفسيون الذين يستمتعون بجلد الذات، والمازوخيون من أبناء جلدتنا أنّ قصة ليلى والذئب ليست على النحو الذي أخبرنا به الغرب! من يدري، ربما يكون الذئب هو الضحية، وليلى ابنة تاجر جلود حيوانية أراد أن يسلخ جلد الذئب ليحوّله إلى حقيبة نسائية ماركة (Gucci)! عليهم أن يعيدوا النظر في كلّ ما قيل لهم على مدى السنوات الماضية! آن لهم أن يعرفوا الحقيقة!
الغرب ليس كما تحسبون أبداً! لا تعنيه حقوق الإنسان إلا بقدر ما تراعي متطلباته وتخدم مصالحه! لا بأس بمصادرة رأي المواطن الغربي من أصول أفريقية أو عربية أو آسيوية، ولا بأس بسرقة موارد مالي الكونغو وأبيدجان وبوركينا فاسو والسنغال والسودان، ما دامت تدرّ على الخزينة الفرنسية أموالاً، ولا ضير من غضّ النظر عن التجاوزات التي اقترفتها حكومات تلك الدول في حق مواطنيها ما دامت تسهل للفرنسيين مهمة الاستيلاء على الثروة المحلية، وتُعبِّد لهم طرق آمنة للوصول إلى المناجم والآبار النفطية، ولكن حذارِ ثم حذارِ من التعرّض للقيم الفرنسية العريقة، والتي بات يتربع على رأس قائمتها اليوم الشذوذ الجنسي!
من منَّا لا يذكر مواقف الحكومات الغربية إبان الربيع العربي، ألم يحوِّل الإعلام الغربي وبعض الإعلام العربي المتواطئ معه البوعزيزي في تونس وأطفال درعا في سورية إلى أيقونات؟! ما دام البوعزيزي يسهم في إحراق تونس، وما دامت الشعارات التي خطّها أطفال درعا على جدران مدينتهم تشعل فتنة داخلية في سورية، وما دام متظاهرو ميدان التحرير في بغداد يؤسسون لخراب البصرة، فإنّ أبواق حقوق الإنسان الغربية لا تجد بداً من تأييد هؤلاء وتقديم كلّ وسائل الدعم والمساندة لهم، فالهدف الأول هو تعميم تجربة الفوضى الخلاقة في الدول العربية والإسلامية، وصولاً إلى إعادة احتلالها من جديد والهيمنة على مقدراتها.
إنّ الوسيلة المُثلى للسيطرة على مقدراتك هي في تأليب الشارع عليك، ومحاولة إشغالك بمشاكلك الداخلية. وإلا فإنّ المحافظة على مقومات الدولة، وتأمين استقرارها، وضمان توزيع الموارد على مستحقيها بشكل عادل، يعني أنك قاب قوسين أو أدنى من إقامة دولة عادلة وقوية ومقتدرة، قد تشكل خطراً مستقبلياً على النظام العالمي، أحادي القطب.
إنّ الاحتجاحات الشعبية العارمة التي تعمّ ضواحي باريس اليوم، تنديداً بمقتل الطفل نائل المرزوقي، والتي جوبهت من قبل السلطات الفرنسية بعنف مفرط، أظهرت للعالم وجه فرنسا القبيح، وكشفت المستور!
حلال على فرنسا وحرام على إيران، حلال أن تقتل الشرطة الفرنسية أبناء الضواحي القُصَّر بتهمة مخالفة قواعد السلامة المرورية، وحرام على إيران محاسبة مواطنتها مهسا أميني بتهمة ازدراء الشعائر الإسلامية! حلال على المتظاهرين الإيرانيين القيام بأعمال شغب، وتخريب الممتلكات العامة، وإحراق المساجد والمحال التجارية والمصانع، وإشعال حاويات القمامة وإغلاق الطرق العامة، والاعتداء على المارة، وحرام على المتظاهرين الفرنسيين فعل ذلك!
في عالم يعُج بالذئاب، عليك ألَّا تعير سمعك لأحد، لا سيما ما يسمّى بالمجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية! افعل ما تراه مناسبًا، ولا تلتفت للضجيج من حولك، وإنْ كان لا بدّ أن تفعل شيئاً، فما عليك إلا أن ترجم فرنسا بحجر، لا لأنها الزانية الوحيدة في عالم مكتظٍّ بالعفيفات، بل لأنها الزانية الوحيدة التي لا زالت تحاضر في العفة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى