نقاط على الحروف

الأميركيون: «لعنة الثمانين» وعهد الرئيس اللبناني المقبل.

ناصر قنديل

بمثل ما يحسبها حزب الله، لجهة الخشية من رئيس يمكن للأميركيين التأثير عليه بالترهيب والترغيب لتحويله الى متآمر يطعن المقاومة، أي يكشف ظهرها أمام الاستهداف الأميركي ويقدم شرعيته الدستورية مظلة للتبرؤ من لبنانية المقاومة ووطنيتها، ويعمل في لحظة حرجة على التنصل من المعادلة الذهبية «ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة»، ويصفها بـ «المعادلة الخشبية»، كما سبق وفعل أحدهم، فإن الأميركي يخضع حساباته الرئاسية اللبنانية لحجم تأثيراتها وتداعياتها على المواجهة الدائرة بين المقاومة والكيان، بين حدّين يرسمهما سقف مرتفع يعتبر الرئاسة مكوّناً حاسماً في موازين القوى في لحظة يمكن للوضع فيها أن يتدحرج نحو حرب كبرى، وسقف منخفض يعتبر الرئاسة محطّة تشبه ترسيم الحدود البحرية، بتقديم تنازل أمام المقاومة يفرض عليها ضمناً نوعاً من الشراكة في الحفاظ على التهدئة.
يؤكد مسؤول فرنسيّ كبير أن الأميركيين حتى تاريخ ما قبل جلسة انتخابات 14 حزيران بأسابيع قليلة، كانوا يعملون وفق السقف المنخفض في مقاربة الرئاسة اللبنانية، وكانوا رغم عدم التصريح بالاستعداد للمساهمة في تبني ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية والدفع باتجاه إنجاح المبادرة الفرنسية القائمة على ثنائية سليمان فرنجية ونواف سلام، قد أبلغوا الفرنسيين أنهم يرون في هذه المعادلة ابتكاراً فرنسياً خلاقاً للتعبير عن التوازنات اللبنانية، وأن وصول فرنجية الى الرئاسة يشبه ترسيم الحدود البحرية لجهة تقديم مكتسبات تطمئن حزب الله وتخفف حدة انخراطه في أعمال عسكرية في مواجهة كيان الاحتلال، الذي يعيش ظروفاً صعبة تحول دون قدرته على تحمل أي مخاطرة يمكن لها أن تحمل فرضية الانزلاق إلى حرب، يكون طرفها الآخر حزب الله، وأن هذه الثنائية تجعل حزب الله ملزماً بالتصرف بما يسهم في إنجاح العهد من جهة، ومحكوماً بوجود رئيس حكومة لا يجاريه بكل ما يرغبه من تغطية رسمية وحكومية.
الواضح بالنسبة للفرنسيين، من تغير أميركي جذري في مقاربة الملف الرئاسي اللبناني، واضح لسواهم، فقد فوجئ السعوديون بما حدث بين زيارتي كل من مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الى الرياض في السابع من أيار الماضي، وزيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلى جدة بعد شهر تماماً في السابع من حزيران الماضي، حيث شهدت المحادثات مع سوليفان أجواء صاخبة تركزت على الضغوط الأميركية لوقف الاندفاعة السعودية نحو سورية وفتح طريق استعادتها المريحة لمقعدها في جامعة الدول العربية، وصولاً لمشاركة الرئيس بشار الأسد في القمة العربية، إلى حد التلويح بالعقوبات على الشركات والمؤسسات السعودية التي تنتهك عقوبات قانون قيصر، بينما جاءت زيارة بلينكن تحمل سعياً لتطبيع العلاقات السعودية الأميركية بعد أعمال القمة العربية، وما شهدته من صفحة عربية إيجابية مع سورية، قال بلينكن إن واشنطن لا تمانع بمراقبة نتائجها، والانفتاح عليها إذا ثبتت صحة القراءة السعودية، لكن بلينكن أشار الى أن واشنطن تنظر بعين الاهتمام نحو لبنان والاستحقاق الرئاسي فيه، وتشجع الموقف السعودي المتريث نحو المبادرة الفرنسية المتسرّعة، وتفهم حساسية الموقف الأميركي تجاه تمكين حزب الله من المزيد من أسباب القوة، في لحظة إقليمية حرجة تخشى واشنطن خلالها خطر الانزلاق الى حرب، وهي لذلك تشجع التحالف الانتخابي الذي رعته قطر لمنع وصول سليمان فرنجية إلى الرئاسة.
الذي جرى بين الزيارتين هو أن واشنطن راهنت على وقف المناخ الجديد في المنطقة القائم على التموضع بعيداً عن الانضباط بالسياسات والتوجهات الأميركية، من خلال التغطية التي وفرتها خلال زيارة سوليفان الى تل أبيب، لعملية اغتيال قادة حركة الجهاد الإسلامي في غزة، لتصيب عصفورين بحجر واحد، الأول هو تمكين كيان الاحتلال من امتلاك المزيد من الحصانة والقوة في مواجهة خطر الانزلاق إلى حرب، عبر استعادة زمام المبادرة في مجال الردع، وما ينتج عن سحق حركة الجهاد من ميزان قوى جديد، فتنقطع الصلة بين ما يجري في فلسطين ومحور المقاومة، لأن حركة حماس بعد سحق الجهاد سوف تكون أشد تحفظاً في اتخاذ قرار الانخراط في مواجهة تواكب أي أحداث في الضفة الغربية والقدس، وحزب الله سوف يكون مضطراً لضبط ايقاع دخوله على خط المواجهة على إيقاع حماس التي ستصبح وحدها في غزة، والثاني هو أن نجاح عملية ترميم الردع من بوابة غزة، سوف يقول لحلفاء واشنطن القلقين من تغيّرات موازين القوى الإقليمية، لسنا بالضعف الذي تظنون، وليسوا بالقوة التي يفترضون، لكن العملية فشلت، وبدا أن ترتيبات محور المقاومة سبقت الأميركيين والكيان بخطوتين، ونجحت باستيعاب العملية واحتواء نتائجها ثم استردّت زمام المبادرة، ونجحت بتظهير رمزية وحدة الساحات ووحدة الجبهات.
يسلم الذين يرسمون الاستراتيجيات في واشنطن بأن هناك تراجعاً في عناصر القوة، لجهة القدرة على شن حروب، لكنهم يؤكدون أن قدرة تعطيل التسويات التي تكرّس موازين قوى جديدة لا تزال تعمل، وهذا هو الحال في حرب أوكرانيا، وفي حرب اليمن، وفي حرب سورية، حيث يقفون في هذه الحروب بين حدّي عدم الانزلاق الى حروب كبرى ومنع تسويات كبرى، وأن السؤال الذي يواجه واشنطن هو حول مدى إمكانية تعميم هذه المعادلة على الوضع المحيط بكيان الاحتلال، حيث تريد واشنطن تعميم التهدئة بما يتيح لها فك وتركيب المشهد الحكومي نحو تحالف يضم نتنياهو والمعارضة دون القوى الأشدّ تطرفاً، بما يتيح إعادة استقطاب السلطة الفلسطينية الى عمل نشط بوجه قوى المقاومة، ويتيح إنتاج قدر أعلى من الهدوء في الضفة والقدس ويقطع طريق تدحرج الأوضاع نحو مواجهة ينخرط فيها حزب الله وتحمل مخاطر الانزلاق إلى حرب. لكن المعالجة من قلب المعادلات الحاكمة لوضع الكيان والوضع الفلسطيني، لا تبدو ممكنة، دون عناصر ضبط يعتمد عليها في الإقليم، وخصوصاً في لبنان وسورية، تعقد فرص الانخراط في أي مواجهة كبرى بين الفلسطينيين وكيان الاحتلال.
يبدو أن تحولاً استراتيجياً طرأ على المقاربة الأميركية، يقول إنه بخلاف حروب أوكرانيا وسورية واليمن، فإن الصراع المحيط بالكيان، الذي لا ترضى واشنطن عن سياسات حكومته، لكنها لا تستطيع تحمل تداعيات انهياره، هو صراع مرشح للخروج عن السيطرة، لأن الديناميكيات التي تصنع التدهور تملك أسبابها الذاتية للتصعيد، واستدراج الجميع الى مواجهة كبرى، فمن جهة يزيد ضعف الكيان جماعات التطرف تطرفاً وغوغائية وتوحشاً، ويزيدهم الانقسام الداخلي ذعراً وقلقاً، فيرسمون من مواقعهم في الحكومة وخارجها مساراً تصاعدياً يغذي مساراً موازياً على الصعيد الفلسطيني، حيث يستشعر الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، والمنتمي إلى جيل مواليد عام 2000 وما بعد، أنه جيل زمن انتصارات المقاومة من تحرير الجنوب الى تحرير غزة وصولاً الى 2006 وحروب غزة وصولا الى سيف القدس وانتهاء بثأر الأحرار، وجاءت معركة جنين تؤكد له أن من يقف قبالته هو جيل من المستوطنين تسكنه الهزائم، في المعارك ذاتها، بل إن ذلك يصحً في جنرالات جيش الاحتلال الذين لم يشهدوا أي انتصار لجيشهم خلال خدمتهم التي تتنقل من هزيمة إلى هزيمة، بينما جيل القادة الفلسطينيين تسلّم مسؤولياته في ظلال الانتصارات، وهذه أبرز نتائج معركة جنين، ويتكفل هذا الجيل بتوفير متطلبات المواجهة بدعم مالي وتدريبي بسيط لجهة القدرة على شراء الأسلحة وتطوير تقنيات موازية لها مثل المسيرات والصواريخ، وهذا يعني أن معادلة عكسية لتلك التي رسمت لمعركة اغتيال قادة الجهاد هي التي سوف تحكم الصراع، على شكل تصاعد فلسطيني في المواجهات في الضفة، يسبقه ويغذيه ويستنهضه ويوازيه ويعقبه تصعيد للمستوطنين، لكن في الحصيلة يحقق خلاله الفلسطينيون تفوقاً يستدعي تدخل جيش الاحتلال بالقوة المفرطة، فتدخل غزة على الخط، حيث باتت الجهاد وحدها كافية لخوض حرب ربما ينتج عنها انخراط حماس، وربما حزب الله ايضاً.
هذه المعادلة التي ينظر الأميركيون إليها بصفتها معادلة سنوات مقبلة، ينتبهون الى انها السنوات الصعبة على الكيان، المسكون بهاجس الذعر التاريخي والقلق الوجودي، في ظلال نظرية الخراب الثالث ولعنة الثمانين، فالكيان يبلغ الثمانين خلال خمس سنوات، وكل قادته دون استثناء يتحدثون عن خطر عدم بلوغه الثمانين ووقوع ما يسمونه الخراب الثالث، أسوة بوقوع خرابين أول وثانٍ زالت معها مملكة «بني إسرائيل» قبيل بلوغ الثمانين. ويصير السؤال المحوري هنا، أليس الرئيس اللبناني المقبل هو رئيس لست سنوات، على الكيان أن يجتاز خلالها عمر الثمانين ليستعيد بعض الثقة بقدرته على البقاء، ويتجاوز ذعر الزوال، بما يجعل شخص الرئيس اللبناني المقبل محورياً في موازين القوى المؤثرة في الصراع المصيري في المنطقة، حتى لو لم ينظر حزب الله للرئاسة بأبعد من معادلته التقليدية، نريد رئيساً مطمئناً لا يطعن المقاومة في ظهرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى